فصل: التّصديق بالنّسب بعد الموت

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


اقتراض

انظر‏:‏ استدانة‏.‏

اقتصار

التّعريف

1 - الاقتصار على الشّيء لغةً‏:‏ الاكتفاء به، وعدم مجاوزته، وقد ورد استعمال الاقتصار بهذا المعنى في بعض فروع الشّافعيّة، كقولهم في كفاية الرّقيق‏:‏ ولا يكفي الاقتصار على ستر العورة، قال الغزاليّ‏:‏ ببلادنا احترازاً عن بلاد السّودان‏.‏ وفي الاستنجاء قال المحلّيّ‏:‏ وجمعهما ‏(‏الماء والحجر‏)‏ بأن يقدّم الحجر أفضل من الاقتصار على أحدهما‏.‏

والاقتصار على الماء أفضل من الاقتصار على الحجر، لأنّه يزيل العين والأثر بخلاف الحجر‏.‏ وقد جاء استعمال ‏"‏ الاقتصار ‏"‏ في المثالين السّابقين بمعناه اللّغويّ ‏"‏ اكتفاء ‏"‏‏.‏ ولتمام الفائدة يراجع مصطلح‏:‏ ‏(‏استناد‏)‏‏.‏

والاقتصار عند الفقهاء هو أن يثبت الحكم عند حدوث العلّة لا قبل الحدوث ولا بعده، كما في الطّلاق المنجّز، وعرّفه صاحب الدّرّ المختار بأنّه‏:‏ ثبوت الحكم في الحال، ومثّل له ابن عابدين‏:‏ بإنشاء البيع والطّلاق والعتاق وغيرها، والتّعريفان متقاربان‏.‏

ويتّضح أنّ المعنى الاصطلاحيّ لم يخرج عن المعنى اللّغويّ للاقتصار، لأنّ ثبوت الحكم في الحال يعني الاكتفاء بالحال وعدم مجاوزته، لا إلى الماضي ولا إلى المستقبل‏.‏

2 - ويلاحظ في تعريف ‏"‏ الاقتصار ‏"‏ الأمور التّالية‏:‏

أ - أنّه أحد الطّرق الّتي يثبت بها الحكم‏.‏

ب - ثبوت الحكم عن طريق الاقتصار يكون في الحال، أي لا قبله ولا بعده‏.‏

ج - أنّه إنشاء وليس بخبرٍ‏.‏

د - أنّه إنشاء منجز لا معلّق‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

3 - يتّضح معنى الاقتصار من ذكر بقيّة الطّرق الّتي يثبت بها الحكم وتعريفها، وهي ألفاظ ذات صلةٍ بالاقتصار‏.‏ قال الحصكفيّ‏:‏ اعلم أنّ طرق ثبوت الأحكام أربعة‏:‏ الانقلاب، والاقتصار، والاستناد، والتّبيين‏.‏

الانقلاب‏:‏

4 - الانقلاب‏:‏ صيرورة ما ليس بعلّةٍ علّةً، كما إذا علّق الطّلاق بالشّرط، كأن يقول الرّجل لامرأته‏:‏ أنت طالق إن دخلت الدّار، فإنّ ‏"‏ أنت طالق ‏"‏ علّة لثبوت حكمه، وهو الطّلاق، لكنّه بالتّعليق على الدّخول لم ينعقد علّةً إلاّ عند وجود شرطه، وهو الدّخول، فعند وجود الشّرط ينقلب ما ليس بعلّةٍ علّةً‏.‏ ويتبيّن من تعريف الانقلاب أنّه يتّفق مع الاقتصار في أنّهما إنشاء لا خبر، إلاّ أنّهما يختلفان في أنّ الاقتصار منجّز، والانقلاب معلّق‏.‏

الاستناد‏:‏

5 - الاستناد‏:‏ ثبوت الحكم في الحال، ثمّ يستند إلى ما قبله بشرط بقاء المحلّ كلّ المدّة، كلزوم الزّكاة حين الحول مستنداً لوجود النّصاب، وكالمضمونات تملك عند أداء الضّمان مستنداً إلى وقت وجود السّبب‏.‏

فالأثر الرّجعيّ هنا واضح، بخلاف الاقتصار فليس فيه أثر رجعيّ‏.‏

الفرق بين الاستناد والاقتصار

6 - الاستناد أحد الطّرق الأربعة الّتي تثبت بها الأحكام، وقد تبيّن من خلال تعريفه أنّ الاستناد له أثر رجعيّ بخلاف الاقتصار‏.‏

جاء في المدخل الفقهيّ العامّ‏:‏

في الاصطلاح القانونيّ الشّائع اليوم في عصرنا يسمّى انسحاب الأحكام على الماضي أثراً رجعيّاً، ويستعمل هذا التّعبير في رجعيّة أحكام القوانين نفسها كما في آثار العقود على السّواء‏.‏ فيقال‏:‏ هذا القانون له أثر رجعيّ، وذاك ليس له، كما يقال‏:‏ إنّ بيع ملك الغير بدون إذنه إذا أجازه المالك يكون لإجازته أثر رجعيّ، فيعتبر حكم العقد سارياً منذ انعقاده لا منذ إجازته، وليس في لغة القانون اسم لعدم الأثر الرّجعيّ‏.‏

أمّا الفقه الإسلاميّ فيسمّي عدم رجعيّة الآثار اقتصاراً، بمعنى أنّ الحكم يثبت مقتصراً على الحال لا منسحباً على الماضي‏.‏ ويسمّي رجعيّة الآثار استناداً، وهو اصطلاح المذهب الحنفيّ، ويسمّيه المالكيّة ‏"‏ انعطافاً ‏"‏‏.‏ ثمّ أضاف صاحب المدخل‏:‏ وتارةً يكون الانحلال مقتصراً ليس له انعطاف وأثر رجعيّ، وإنّما يسري حكمه على المستقبل فقط من تاريخ وقوعه، وذلك في العقود الاستمراريّة كالشّركة وكالإجارة‏.‏

فالفسخ أو الانفساخ يقطعان تأثير هذه العقود بالنّسبة إلى المستقبل، أمّا ما مضى فيكون على حكم العقد، وكذا انحلال الوكالة بالعزل لا ينقض تصرّفات الوكيل السّابقة‏.‏

ثمّ يستحسن التّمييز في تسمية انحلال العقد بين حالتي الاستناد والاقتصار، فيقترح تسمية الحلّ والانحلال في حالة الاستناد‏:‏ فسخاً وانفساخاً، وفي حالة الاقتصار‏:‏ إنهاءً وانتهاءً‏.‏

7- هذا، ولم نر التّصريح بهذين المصطلحين في مذهب غير الحنفيّة، إلاّ أنّ الشّافعيّة فرّقوا بين حالتين في الفسخ‏.‏

قال الإمام السّيوطيّ في كتابه الأشباه والنّظائر‏:‏ الفسخ هل يرفع العقد من أصله، أو من حينه ‏؟‏ يمكن أن نفهم من قول السّيوطيّ هذا أنّهم فرّقوا بين ما يرفع العقد من أصله وبين ما يرفع العقد من حينه، فيصدق على الأوّل الاستناد عند الحنفيّة، وعلى الثّاني الاقتصار عندهم أيضاً‏.‏ فقد فرّق السّيوطيّ هنا بين ماله أثر رجعيّ، وبين ما ليس له أثر رجعيّ‏.‏

8- وقد مثّلوا لما يرفع العقد من حينه بما يلي‏:‏

أ - الفسخ بخيار العيب، والتّصرية ونحوهما، والأصحّ أنّه من حينه‏.‏

ب - فسخ البيع بخيار المجلس أو الشّرط فيه وجهان، أصحّهما في شرح المهذّب من حينه‏.‏

ج - الفسخ بالفلس من حينه قطعاً‏.‏

هـ- الرّجوع في الهبة من حينه قطعاً‏.‏

و- وفسخ النّكاح بأحد العيوب، والأصحّ‏:‏ أنّه من حينه‏.‏

ز - فسخ الحوالة‏:‏ انقطاع من حينه‏.‏

9- ومثّل لما يرفع العقد من أصله أيضاً بقولهم‏:‏ إذا كان رأس مال السّلم في الذّمّة، وعيّن في المجلس، ثمّ انفسخ السّلم بسببٍ يقتضيه ورأس المال باقٍ، فهل يرجع إلى عينه أو بدله ‏؟‏ وجهان‏:‏ الأصحّ الأوّل‏.‏ قال الغزاليّ‏:‏ والخلاف يلتفت إلى أنّ المسلم فيه إذا ردّ بالعيب هل يكون نقضاً للملك في الحال، أو هو مبيّن لعدم جريان الملك ‏؟‏‏.‏

ومقتضى هذا التّفريع‏:‏ أنّ الأصحّ هنا، أنّه رفع للعقد من أصله، ويجري ذلك أيضاً في نجوم الكتابة ‏(‏أقساطها‏)‏، وبدل الخلع إذا وجد به عيباً فردّه‏.‏

لكن في الكتابة يرتدّ العتق لعدم القبض المعلّق عليه‏.‏

وفي الخلع‏:‏ لا يرتدّ الطّلاق بل يرجع إلى بدل البضع‏.‏ هذا ما ذهب إليه الإمام السّيوطيّ في الأشباه والنّظائر، في أنّ الفسخ يرفع العقد من أصله حيناً ومن حينه حيناً آخر‏.‏

إلاّ أنّنا حينما نرجع إلى الرّوضة نجد الإمام النّوويّ يرجّح أنّ الفسخ يرفع العقد من حينه، وأنّ الرّفع من الأصل ضعيف‏.‏

وقد تبعه في ذلك القليوبيّ في حاشيته على شرح المنهاج للمحلّيّ، فيقول‏:‏ إنّ الفسخ يرفع العقد من أصله، وهو ضعيف‏.‏

ويقول المحلّيّ‏:‏ بناءً على الأصحّ‏:‏ إنّ الفسخ يرفع العقد من حينه‏.‏

التّبيين

10 - التّبيين‏:‏ أن يظهر في الحال أنّ الحكم كان ثابتاً من قبل، مثل أن يقول في اليوم‏:‏ إن كان زيد في الدّار فأنت طالق، وتبيّن في الغد وجوده فيها، يقع الطّلاق في اليوم، ويعتبر ابتداء المدّة منه‏.‏ ويخالف التّبيين الاقتصار في أنّ الحكم في التّبيين يظهر أنّه كان ثابتاً من قبل، في حين أنّ الحكم في الاقتصار يثبت في الحال فقط‏.‏

هذا، ولمّا كان الاقتصار إنشاءً للعقود، أو الفسوخ المنجزة، شملها جميعاً، لأنّ التّنجيز هو الأصل فيها‏.‏

مثال العقود‏:‏ البيع والسّلم والإجارة والقراض وغير ذلك‏.‏

ومثال الفسوخ‏:‏ الطّلاق والعتاق وغير ذلك‏.‏ أمّا إذا كانت الفسوخ غير منجزةٍ، بأن كان لها أثر رجعيّ، وانسحب حكمها على الماضي، فتدخل حينئذٍ في باب الاستناد‏.‏

ومثاله ما لو قال‏:‏ أنت طالق قبل موت فلانٍ بشهرٍ، لم تطلق حتّى يموت فلان بعد اليمين بشهرٍ، فإن مات لتمام الشّهر طلقت مستنداً إلى أوّل الشّهر، فتعتبر العدّة أوّله‏.‏

اقتضاء

التّعريف

1 - الاقتضاء‏:‏ مصدر اقتضى، يقال‏:‏ اقتضيت منه حقّي، وتقاضيته‏:‏ إذا طلبته وقبضته وأخذته منه، وأصله من قضاء الدّين‏.‏

والاقتضاء في استعمال الفقهاء بمعناه اللّغويّ‏.‏ ويستعمله الأصوليّون بمعنى الدّلالة‏.‏ يقولون‏:‏ الأمر يقتضي الوجوب أي يدلّ عليه، ويستعملونه أيضاً بمعنى الطّلب‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - القضاء‏:‏

2 - القضاء‏:‏ إعطاء الحقّ والفراغ منه، ومنه أداء ما على الإنسان من حقوقٍ للّه تعالى، سواء كان أداؤها في الوقت المحدّد لها، ومنه قول اللّه عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏فإذا قضيتم مناسككم‏}‏ أي أدّيتموها وفرغتم منها، أو كان أداؤها بعد خروج وقتها كقضاء الفائتة‏.‏

وبعض الأصوليّين يقول‏:‏ إنّ لفظ القضاء عامّ يجوز إطلاقه على تسليم عين الواجب ‏(‏وهو الأداء‏)‏، أو تسليم مثله ‏(‏وهو القضاء‏)‏، لأنّ معنى القضاء‏:‏ الإسقاط والإتمام والإحكام، وهذه المعاني موجودة في تسليم عين الواجب، كما هي موجودة في تسليم مثله، فيجوز إطلاق القضاء على الأداء بطريق الحقيقة لعموم معناه، إلاّ أنّه لمّا اختصّ بتسليم المثل عرفاً أو شرعاً كان في غيره مجازاً، وكان إطلاقه على الأداء حقيقةً لغويّةً، مجازاً عرفيّاً أو شرعيّاً‏.‏ ويشمل أيضاً أداء ما على الإنسان من حقوقٍ لغيره كقولهم‏:‏ لو عرف الوصيّ ديناً على الميّت فقضاه لا يأثم‏.‏‏.‏

ب - الاستيفاء‏:‏

3 - الاستيفاء‏:‏ طلب الوفاء، يقال‏:‏ استوفيت من فلانٍ ما لي عليه أي‏:‏ أخذته حتّى لم يبق عليه شيء، واستوفيت المال‏:‏ إذا أخذته كلّه‏.‏ وهو بذلك نوع من أنواع الاقتضاء‏.‏ دلالة الاقتضاء‏:‏

4 - دلالة الاقتضاء هي تقدير محذوفٍ يتوقّف عليه صحّة الكلام أو صدقه‏.‏

والكلام الّذي لا يصحّ إلاّ بالزّيادة هو المقتضى، والمزيد هو المقتضي، وطلب الزّيادة هو الاقتضاء، والحكم الّذي ثبت به هو حكم المقتضي، ومثاله ما يتوقّف عليه لصحّة قول القائل‏:‏ أعتق عبدك عنّي بألفٍ، فنفس هذا الكلام هو المقتضي، لعدم صحّته في نفسه شرعاً، لأنّ العتق فرع الملكيّة، فكأنّه قال‏:‏ بعني عبدك بكذا أو وكّلتك في إعتاقه، وطلب الزّيادة الّتي يصحّ بها الكلام هي الاقتضاء، وهذه الزّيادة ‏(‏وهي البيع‏)‏ هي المقتضى، وما ثبت بالبيع ‏(‏وهو الملك‏)‏ هو حكم المقتضي، ومثاله ما يتوقّف عليه صدق المتكلّم، كقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم «رفع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه» فإنّ رفع الخطأ وغيره مع تحقّقه ممتنع فلا بدّ من إضمار نفي حكمٍ يمكن نفيه، كنفي المؤاخذة والعقاب‏.‏

ومنه ما أضمر لصحّة الكلام عقلاً، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واسأل القرية‏}‏، فإنّه لا بدّ من إضمار ‏(‏أهل‏)‏ لصحّة الملفوظ به عقلاً‏.‏

الاقتضاء بمعنى الطّلب

5 - الحكم التّكليفيّ هو‏:‏ خطاب اللّه تعالى المتعلّق بأفعال المكلّفين بالاقتضاء أو التّخيير‏.‏ والاقتضاء - وهو الطّلب - إمّا أن يكون طلب الفعل أو طلب تركه‏.‏ وطلب الفعل، إن كان على سبيل الجزم فهو الإيجاب، وإن كان غير جازمٍ فهو النّدب‏.‏ وأمّا طلب التّرك، فإن كان جازماً فهو التّحريم، وإن كان غير جازمٍ فهو الكراهة‏.‏

أمّا التّخيير فهو قسيم الاقتضاء، إذ هو ما كان فعله وتركه على السّواء‏.‏

اقتضاء الحقّ

6 - الشّائع في استعمال الفقهاء هو التّعبير بلفظ ‏(‏الاستيفاء‏)‏ مقصوداً به أخذ الحقّ، سواء أكان حقّاً ماليّاً كاستيفاء الأجير أجرته، أم كان حقّاً غير ماليٍّ كاستيفاء المنافع والقصاص وغير ذلك‏.‏

ويأتي الاقتضاء بمعنى طلب قضاء الحقّ، ومنه الحديث‏:‏ «رحم اللّه رجلاً سمحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى» قال ابن حجرٍ في شرحه‏:‏ أي طلب قضاء حقّه بسهولةٍ وعدم إلحافٍ‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ اتّباع‏.‏ استيفاء‏)‏‏.‏

اقتناء

التّعريف

1 - الاقتناء‏:‏ مصدر اقتنى الشّيء يقتنيه، إذا اتّخذه لنفسه، لا للبيع أو للتّجارة‏.‏ يقال‏:‏ هذه الفرس قنية، وقنية ‏(‏بكسر القاف وضمّها‏)‏ إذا اتّخذها للنّسل أو للرّكوب ونحوهما، لا للتّجارة‏.‏ وقنوت البقرة، وقنيتها‏:‏ أي اتّخذتها للحلب أو الحرث‏.‏ ومال قنيانٍ‏:‏ إذا اتّخذته لنفسك‏.‏ والمعنى الاصطلاحيّ لهذا اللّفظ لا يفترق عن المعنى اللّغويّ‏.‏

حكم الاقتناء

2 - الاقتناء للأشياء قد يكون مباحاً، بل قد يكون مندوباً، مثل اقتناء المصاحف وكتب الحديث والعلم‏.‏ وقد يكون مباحاً في حالٍ دون حالٍ، مثل اقتناء الذّهب والفضّة، واقتناء الكلب المعلّم وغير ذلك من المباحات بشروطها، ينظر تفصيلها في مصطلح ‏(‏إباحة‏)‏‏.‏

وقد يكون حراماً مثل الخنزير والخمر وآلات اللّهو المحرّم‏.‏

3 - وقد تعرّض الفقهاء لزكاة المقتنيات وقالوا‏:‏ لا يزكّى المقتنى من النّعم في الجملة إلاّ ما أسيم لحملٍ أو ركوبٍ أو نسلٍ، إذا بلغت نصاباً، لقوله عليه الصلاة والسلام «في خمسٍ من الإبل السّائمة صدقة»

كما يزكّى المقتنى من الذّهب والفضّة مضروبها وتبرها وحليّها وآنيّتها، نوى التّجارة أو لم ينو، إذا بلغ ذلك نصاباً‏.‏ وهذا عند الحنفيّة، ووافقهم على ذلك المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة في الجملة، إلاّ في حليّ النّساء‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ زكاة‏)‏‏.‏

اقتيات

التّعريف

1 - الاقتيات لغةً‏:‏ مصدر اقتات، واقتات‏:‏ أكل القوت، والقوت‏:‏ ما يؤكل ليمسك الرّمق، كالقمح والأرز‏.‏

والأشياء المقتاتة‏:‏ هي الّتي تصلح أن تكون قوتاً تغذّى به الأجسام على الدّوام، بخلاف ما يكون قواماً للأجسام لا على الدّوام‏.‏

ويستعمل الاقتيات عند الفقهاء بالمعنى اللّغويّ، إذ عرّفه الدّسوقيّ بأنّه‏:‏ ما تقوم البنية باستعماله بحيث لا تفسد عند الاقتصار عليه‏.‏

والأغذية أعمّ من القوت، فإنّها قد يتناولها الإنسان تقوّتاً أو تأدّماً أو تفكّهاً أو تداوياً‏.‏

الحكم الإجماليّ، ومواطن البحث

2 - يتكلّم الفقهاء عن الاقتيات في الزّكاة، وفي بيع الرّبويّات، وفي الاحتكار‏.‏

ففي الزّكاة لا يخالف أحد من الفقهاء في وجوب الزّكاة في الزّروع والثّمار إن كانت ممّا يقتات اختياراً ويدّخر، أمّا غير القوت ففي بعض أنواعه زكاة عند بعض الفقهاء، ولا زكاة فيه عند البعض الآخر‏.‏

3 - وفي بيع الرّبويّات لا يعتبر الاقتيات علّةً في الرّبا عند جمهور الفقهاء‏.‏

وعند المالكيّة‏:‏ علّة الرّبا الاقتيات والادّخار، إذ حرّموا الرّبا في كلّ ما كان قوتاً مدّخراً، ونفوه عمّا ليس بقوتٍ كالفواكه، وعمّا هو قوت لا يدّخر كاللّحم، وفي معنى الاقتيات عندهم‏:‏ ما يصلح القوت كالملح والتّوابل‏.‏

وفي الاحتكار يتّفق الفقهاء على منع احتكار الأقوات على اختلافٍ بينهم في ذلك المنع، فأغلبهم على تحريمه‏.‏ ونظراً لأهمّيّة الأقوات لكلّ النّاس قال أكثر الفقهاء‏:‏ الاحتكار لا يجري إلاّ في الأقوات‏.‏ وقد سبق تفصيل ذلك في بحث ‏(‏احتكار‏)‏‏.‏‏.‏

أقراء

انظر‏:‏ قرء‏.‏

إقراء

التّعريف

1 - الإقراء لغةً‏:‏ الحمل على القراءة، يقال‏:‏ أقرأ غيره يقرئه إقراءً‏.‏ وأقرأه القرآن فهو مقرئ، وإذا قرأ الرّجل القرآن أو الحديث على الشّيخ يقول‏:‏ أقرأني فلان، أي حملني على أن أقرأ عليه‏.‏ ولا يخرج استعمال الفقهاء له عن المعنى اللّغويّ‏.‏ ‏(‏الحمل على القراءة‏)‏ سواء أكان ذلك بقصد الاستماع والذّكر، أم كان بقصد التّعليم والحفظ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - القراءة والتّلاوة‏:‏

2 - القراءة والتّلاوة بمعنًى واحدٍ، تقول‏:‏ فلان يتلو كتاب اللّه‏:‏ أي يقرؤه ويتكلّم به، قال اللّيث‏:‏ تلا يتلو تلاوةً يعني‏:‏ قرأ، والغالب في التّلاوة أنّها تكون للقرآن، وجعله بعضهم أعمّ من تلاوة القرآن وغيره‏.‏

ب - المدارسة‏:‏

3 - المدارسة هي‏:‏ أن يقرأ الشّخص على غيره، ويقرأ غيره عليه‏.‏

ج - الإدارة‏:‏

4 - الإدارة هي‏:‏ أن يقرأ بعض الجماعة قطعةً، ثمّ يقرأ غيرهم ما بعدها، وهكذا‏.‏

الحكم الإجمالي

5 - الإقراء بقصد الذّكر واستماع القرآن - وخاصّةً ممّن كان صوته حسناً - أمر مستحبّ‏.‏ فعن ابن مسعودٍ رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ «قال لي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ اقرأ عليّ القرآن، فقلت‏:‏ يا رسول اللّه أقرأ عليك، وعليك أنزل ‏؟‏ قال‏:‏ إنّي أحبّ أن أسمعه من غيري، قال‏:‏ فقرأت عليه سورة النّساء حتّى جئت إلى هذه الآية‏:‏ ‏{‏فكيف إذا جئنا من كلّ أمّةٍ بشهيدٍ وجئنا بك على هؤلاء شهيداً‏}‏ قال‏:‏ حسبك الآن، فالتفت إليه فإذا عيّناه تذرفان»‏.‏ وفي ذلك تفصيل‏:‏ ‏(‏ر‏:‏ استماع - قرآن‏)‏‏.‏

6- والإقراء بقصد التّعليم والحفظ، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سنقرئك فلا تنسى‏}‏‏.‏ فهو يعتبر في الجملة من فروض الكفاية‏.‏ جاء في منح الجليل‏:‏ من فروض الكفاية القيام بعلوم الشّرع ممّن هو أهل له، غير ما يجب عيناً، وهو ما يحتاجه الشّخص في نفسه، ثمّ قال‏:‏ والمراد بالقيام بها حفظها وإقراؤها وقراءتها وتحقيقها‏.‏

ويتعلّق بذلك أحكام مختلفة كأخذ الأجرة على ذلك‏.‏ وينظر تفصيل ذلك في - ‏(‏تعليم - إجارة - اعتكاف‏)‏‏.‏

إقرار

التّعريف

1 - من معاني الإقرار في اللّغة‏:‏ الاعتراف‏.‏ يقال‏:‏ أقرّ بالحقّ إذا اعترف به‏.‏ وأقرّ الشّيء أو الشّخص في المكان‏:‏ أثبته وجعله يستقرّ فيه‏.‏

وفي اصطلاح الفقهاء، الإقرار‏:‏ هو الإخبار عن ثبوت حقٍّ للغير على المخبر، وهذا تعريف الجمهور‏.‏ وذهب بعض الحنفيّة إلى أنّه إنشاء، وذهب آخرون منهم إلى أنّه إخبار من وجهٍ، وإنشاء من وجهٍ‏.‏

والإقرار عند المحدّثين والأصوليّين هو‏:‏ عدم الإنكار من النّبيّ صلى الله عليه وسلم على قولٍ أو فعلٍ صدر أمامه‏.‏ وتنظر أحكامه في مصطلح ‏(‏تقرير‏)‏، والملحق الأصوليّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الاعتراف‏:‏

2 - الاعتراف لغةً‏:‏ مرادف للإقرار‏.‏ يقال‏:‏ اعترف بالشّيء‏:‏ إذا أقرّ به على نفسه‏.‏ وهو كذلك عند الفقهاء‏.‏ يقول قاضي زاده‏:‏ روي في السّنّة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم «رجم ماعزاً بإقراره بالزّنى، والغامديّة باعترافها»، «وقال في قصّة العسيف‏:‏ واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها»‏.‏ فأثبت الحدّ بالاعتراف‏.‏ فالاعتراف إقرار، وقال القليوبيّ‏:‏ إنّه تفسير بالمرادف‏.‏

ب - الإنكار‏:‏

3 - الإنكار‏:‏ ضدّ الإقرار‏.‏ يقال في اللّغة‏:‏ أنكرت حقّه‏:‏ إذا جحدته‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ ‏(‏ر‏:‏ مصطلح‏:‏ إنكار‏)‏‏.‏

والمنكر في الاصطلاح‏:‏ من يتمسّك ببقاء الأصل‏.‏

ج - الدّعوى‏:‏

4 - الدّعوى في الاصطلاح‏:‏ مباينة للإقرار، فهي قول مقبول عند القاضي يقصد به طلب حقٍّ قبل الغير، أو دفع الخصم عن حقّ نفسه‏.‏

د - الشّهادة‏:‏

5 - الشّهادة هي‏:‏ الإخبار في مجلس الحكم بلفظ الشّهادة لإثبات حقٍّ للغير على الغير‏.‏ فيجمع كلّاً من الإقرار والدّعوى والشّهادة أنّها إخبارات، والفرق بينها أنّ الإخبار إن كان عن حقٍّ سابقٍ على المخبر ويقتصر حكمه عليه فإقرار، وإن لم يقتصر‏:‏ فإمّا ألاّ يكون للمخبر فيه نفع، وإنّما هو إخبار عن حقٍّ لغيره على غيره فهو الشّهادة، وإمّا أن يكون للمخبر نفع فيه، لأنّه إخبار بحقٍّ له، فهو الدّعوى‏.‏

كما تفترق من ناحية أنّ الإقرار يصحّ بالمبهم ويلزم تعيينه‏.‏

أمّا الدّعوى بالمبهم فإن كانت بما يصحّ وقوع العقد عليه مبهماً كالوصيّة فإنّها تصحّ‏.‏ وأمّا الدّعوى على المدّعى عليه المبهم فلا تصحّ، ولا تسمع‏.‏

وأمّا الشّهادة بالمبهم فإن كان المشهود به يصحّ مبهماً صحّت الشّهادة به كالعتق والطّلاق، وإلاّ لم تصحّ، لا سيّما الشّهادة الّتي لا تصحّ بدون دعوى‏.‏

الحكم التّكليفيّ

6 - الأصل في الإقرار بحقوق العباد الوجوب، ومن ذلك‏:‏ الإقرار بالنّسب الثّابت لئلاّ تضيع الأنساب، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال حين نزلت آية الملاعنة‏:‏ «أيّما رجلٍ جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب اللّه عنه وفضحه اللّه على رءوس الأوّلين والآخرين»،وكذلك الإقرار بالحقّ الّذي عليه للغير إذا كان متعيّناً لإثباته، لأنّ ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب‏.‏

دليل مشروعيّة الإقرار

7 - ثبتت حجّيّة الإقرار بالكتاب والسّنّة والإجماع والمعقول‏.‏

أمّا الكتاب فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليملل الّذي عليه الحقّ‏}‏ أمره بالإملال، فلو لم يقبل إقراره لمّا كان لإملاله معنًى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل الإنسان على نفسه بصيرة‏}‏ أي شاهد كما قاله ابن عبّاسٍ‏.‏

وأمّا السّنّة‏:‏ فما روي أنّه عليه الصلاة والسلام «رجم ماعزاً والغامديّة بإقرارهما»، فإذا وجب الحدّ بإقراره على نفسه فالمال أولى أن يجب‏.‏

وأمّا الإجماع‏:‏ فلأنّ الأمّة أجمعت على أنّ الإقرار حجّة قاصرة على المقرّ، حتّى أوجبوا عليه الحدود والقصاص بإقراره، والمال أولى‏.‏

وأمّا المعقول‏:‏ فلأنّ العاقل لا يقرّ على نفسه كاذباً بما فيه ضرر على نفسه أو ماله، فترجّحت جهة الصّدق، في حقّ نفسه، لعدم التّهمة، وكمال الولاية‏.‏

أثر الإقرار

8 - أثر الإقرار ظهور ما أقرّ به، أي ثبوت الحقّ في الماضي، لا إنشاء الحقّ ابتداءً، فلو أقرّ لغيره بمالٍ والمقرّ له يعلم أنّ المقرّ كاذب في إقراره، لا يحلّ له أخذ المال عن كرهٍ منه فيما بينه وبين اللّه تعالى، إلاّ أن يسلّمه إيّاه بطيب نفسٍ منه فيكون تمليكاً مبتدأً على سبيل الهبة‏.‏ وقال صاحب النّهاية ومن يحذو حذوه‏:‏ حكمه لزوم ما أقرّ به على المقرّ‏.‏

حجّيّة الإقرار

9 - الإقرار خبر، فكان محتملاً للصّدق والكذب باعتبار ظاهره، ولكنّه جعل حجّةً لظهور رجحان جانب الصّدق فيه، إذ المقرّ غير متّهمٍ فيما يقرّ به على نفسه‏.‏

قال ابن القيّم‏:‏ الحكم بالإقرار يلزم قبوله بلا خلافٍ‏.‏

والأصل أنّ الإقرار حجّة بنفسه، ولا يحتاج لثبوت الحقّ به إلى القضاء، فهو أقوى ما يحكم به، وهو مقدّم على البيّنة‏.‏ ولهذا يبدأ الحاكم بالسّؤال عنه قبل السّؤال عن الشّهادة‏.‏ قال القاضي أبو الطّيّب‏:‏ ولهذا لو شهد شاهدان للمدّعي ثمّ أقرّ المدّعى عليه حكم بالإقرار وبطلت الشّهادة‏.‏ ولذا قيل‏:‏ إنّه سيّد الحجج‏.‏

على أنّ حجّيّته قاصرة على المقرّ وحده لقصور ولاية المقرّ عن غيره فيقتصر عليه‏.‏ فلا يصحّ إلزام أحدٍ بعقوبةٍ نتيجة إقرار آخر بأنّه شاركه في جريمته‏.‏ وهذا ما جرى عليه القضاء في عهد الرّسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقد روي أنّ «رجلاً جاء إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إنّه قد زنى بامرأةٍ - سمّاها - فأرسل النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المرأة فدعاها فسألها عمّا قال، فأنكرت فحدّه وتركها»‏.‏

غير أنّ هناك بعض حالاتٍ لا بدّ فيها للحكم بمقتضى الإقرار من إقامة البيّنة أيضاً‏.‏ وهذا إذا ما طلب تعدّي الحكم إلى الغير‏.‏ فلو ادّعى شخص على مدين الميّت أنّه وصيّه في التّركة، وصدّقه المدين في دعوى الوصاية والدّين، فإنّ الوصاية لا تثبت بهذا الإقرار بالنّسبة لمدينٍ آخر ينكر الوصاية وإنّما يحتاج إلى بيّنةٍ‏.‏

وفي الدّرّ المختار‏:‏ أحد الورثة أقرّ بالدّين المدّعى به على مورثه، وجحده الباقون، يلزمه الدّين كلّه إن وفّت حصّته من الميراث به، وقيل‏:‏ لا يلزمه إلاّ حصّته من الدّين رفعاً للضّرر عنه، لأنّه إنّما أقرّ بما يتعلّق بكلّ التّركة‏.‏ وهو قول الشّعبيّ والبصريّ والثّوريّ ومالكٍ وابن أبي ليلى، واختاره ابن عابدين، ولو شهد هذا المقرّ مع آخر أنّ الدّين كان على الميّت قبلت شهادته، ولا يؤخذ منه إلاّ ما يخصّه‏.‏

وبهذا علم أنّه لا يحلّ الدّين في نصيبه بمجرّد إقراره، بل بقضاء القاضي عليه بإقراره‏.‏ يقول ابن عابدين‏:‏ ولو أقرّ من عنده العين أنّه وكيل بقبضها لا يكفي إقراره، ويكلّف الوكيل إقامة البيّنة على إثبات الوكالة حتّى يكون له قبض ذلك‏.‏ ثمّ الإقرار حجّة في النّسب، ويثبت به النّسب إلاّ إذا كذّبه الواقع، كأن يقرّ بنسب من لا يولد مثله لمثله‏.‏

سبب الإقرار

10 - سبب الإقرار كما يقول الكمال بن الهمام‏:‏ إرادة إسقاط الواجب عن ذمّته بإخباره وإعلامه، لئلاّ يبقى في تبعة الواجب‏.‏

ركن الإقرار

11 - أركان الإقرار عند غير الحنفيّة أربعة‏:‏ مقرّ، ومقرّ له، ومقرّ به، وصيغة، وذلك لأنّ الرّكن عندهم هو ما لا يتمّ الشّيء إلاّ به، سواء أكان جزءاً منه أم لازماً له‏.‏ وزاد بعضهم كما يقول الرّمليّ‏:‏ المقرّ عنده من حاكمٍ أو شاهدٍ، وقال‏:‏ وهذه الزّيادة محلّ نظرٍ، إذ لو توقّف تحقّق الإقرار على ذلك لزم أنّه لو أقرّ خالياً بحيث لا يسمعه شاهد، ولم يكن أمام قاضٍ، ثمّ بعد مدّةٍ تبيّن أنّه أقرّ على هذا الوجه في يوم كذا، لم يعتدّ بهذا الإقرار، لعدم وجود هذا الرّكن الزّائد، وهو ممنوع، ولذا فإنّه لا يشترط‏.‏

وأمّا ركن الإقرار عند الحنفيّة فهو الصّيغة فقط، صراحةً كانت أو دلالةً، وذلك لأنّ الرّكن عندهم‏:‏ ما يتوقّف عليه وجود الشّيء، وهو جزء من ماهيّته‏.‏

المقرّ وما يشترط فيه

المقرّ من صدر منه الإخبار عن ثبوت حقٍّ للغير على نفسه وتشترط فيه أمور‏:‏

الشّرط الأوّل‏:‏ المعلوميّة‏:‏

12 - أوّل ما يشترط لاعتبار الإقرار والأخذ به أن يكون المقرّ معلوماً حتّى لو قال رجلان‏:‏ لفلانٍ على واحدٍ منّا ألف درهمٍ لا يصحّ، لأنّه إذا لم يكن معلوماً لا يتمكّن المقرّ له من المطالبة، وكذلك إذا قال أحدهما‏:‏ غصب واحد منّا، أو زنى، أو سرق، أو شرب، أو قذف، لأنّ من عليه الحقّ غير معلومٍ ويجبران على البيان‏.‏

الشّرط الثّاني‏:‏ العقل‏:‏

13 - ويشترط في المقرّ أن يكون عاقلاً‏.‏ فلا يصحّ إقرار الصّبيّ غير المميّز والمجنون والمعتوه والنّائم والسّكران على تفصيلٍ يأتي بيانه‏.‏

إقرار المعتوه

14 - لا يصحّ إقرار المعتوه ولو بعد البلوغ، لأنّ حكمه حكم الصّبيّ المميّز، فلا يلتزم بشيءٍ فيه ضرر إلاّ إذا كان مأذوناً له فيصحّ إقراره بالمال، لكونه من ضرورات التّجارة‏:‏ كالدّيون، والودائع، والعواريّ، والمضاربات، والغصوب، فيصحّ إقراره‏.‏ لالتحاقه في حقّها بالبالغ العامل‏.‏ بخلاف ما ليس من باب التّجارة‏:‏ كالمهر، والجناية، والكفالة، حيث لا يصحّ إقراره بها لأنّها لا تدخل تحت الإذن‏.‏

إقرار النّائم والمغمى عليه

15 - النّائم والمغمى عليه إقرارهما كإقرار المجنون، لأنّهما حال النّوم والإغماء ليسا من أهل المعرفة والتّمييز، وهما شرطان لصحّة الإقرار‏.‏

إقرار السّكران

16 - السّكران من فقد عقله بشرب ما يسكر، وإقرار السّكران جائز بالحقوق كلّها إلاّ الحدود الخالصة، والرّدّة بمنزلة سائر التّصرّفات‏.‏ وهذا عند الحنفيّة والمزنيّ من الشّافعيّة وأبي ثورٍ إذا كان سكره بطريقٍ محظورٍ، لأنّه لا ينافي الخطاب، إلاّ إذا أقرّ بما يقبل الرّجوع كالحدود الخالصة حقّاً للّه تعالى، لأنّ السّكران يكاد لا يثبت على شيءٍ فأقيم السّكر مقامه فيما يحتمل الرّجوع فلا يلزمه شيء‏.‏

وإن سكر بطريقٍ غير محرّمٍ، كمن شرب المسكر مكرهاً لا يلزمه شيء، وكذا من شرب ما لا يعلم أنّه مسكر فسكر بذلك‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إنّ السّكران لا يؤاخذ بإقراره، لأنّه وإن كان مكلّفاً إلاّ أنّه محجور عليه في المال، وكما لا يلزمه إقراره‏.‏ لا تلزمه العقود، بخلاف جناياته فإنّها تلزمه‏.‏

وقال جمهور الشّافعيّة‏:‏ إقرار السّكران صحيح، ويؤاخذ به في كلّ ما أقرّ به، سواء وقع الاعتداء فيها على حقّ اللّه سبحانه أو على حقّ العبد، لأنّ المتعدّي بسكره يجب أن يتحمّل نتيجة عمله، تغليظاً عليه وجزاءً لما أقدم عليه وهو يعلم أنّه سيذهب عقله‏.‏

17 - أمّا من تغيّب عقله بسببٍ يعذر فيه فلا يلزم بإقراره، سواء أقرّ بما يجب فيه الحدّ حقّاً للّه خالصاً أو ما فيه حقّ العبد أيضاً‏.‏

وكذا فإنّه لا يصحّ إقرار السّكران في روايةٍ عند الحنابلة، قال ابن منجّا‏:‏ إنّها المذهب وجزم به في الوجيز وغيره‏.‏ وجاء في أوّل كتاب الطّلاق عند الحنابلة أنّ في أقوال السّكران وأفعاله خمس رواياتٍ أو ستّة، وأنّ الصّحيح في المذهب‏:‏ أنّه مؤاخذ بعبارته‏.‏

إقرار السّفيه

18 - السّفيه بعد الحجر عليه لا يصحّ إقراره بالمال، لأنّه من التّصرّفات الضّارّة المحضة من حيث الظّاهر، وإنّما قبل الإقرار من المأذون للضّرورة‏.‏

وإذا بلغ الصّبيّ سفيهاً أو ذا غفلةٍ وحجر عليه بسبب ذلك أو اعتبر محجوراً عليه فإنّه في تصرّفاته الماليّة الضّارّة يأخذ حكم الصّبيّ المميّز، فإذا تزوّج وأقرّ بأنّ المهر الّذي قرّره لها أكثر من مهر المثل فالزّيادة باطلة، وهكذا فإنّ القاضي يردّ كلّ تصرّفاته الماليّة الضّارّة‏.‏ وعلى القول بأنّ الحجر عليه لا بدّ من الحكم به ولا يكون تلقائيّاً بسبب السّفه فإنّ السّفيه المهمل - أي الّذي لم يحجر عليه - يصحّ إقراره‏.‏

ونصّ الشّافعيّة على أنّه لا يصحّ إقراره بنكاحٍ، ولا بدينٍ أسند وجوبه إلى ما قبل الحجر، أو إلى ما بعده، ولا يقبل إقراره بعينٍ في يده في حال الحجر، وكذا بإتلاف مال الغير، أو جناية توجب المال في الأظهر‏.‏ وفي قولٍ عندهم يقبل، لأنّه إذا باشر الإتلاف يضمن، فإذا أقرّ به قبل إقراره، ويصحّ إقراره بالحدّ والقصاص لعدم تعلّقهما بالمال، وسائر العقوبات مثلهما لبعد التّهمة، ولو كان الحدّ سرقةً قطع، ولا يلزمه المال‏.‏

وذكر الأدميّ البغداديّ من الحنابلة‏:‏ أنّ السّفيه إن أقرّ بحدٍّ أو قودٍ أو نسبٍ أو طلاقٍ لزم - ويتبع به في الحال - وإن أقرّ بمالٍ أخذ به بعد رفع الحجر عنه‏.‏ والصّحيح من مذهب الحنابلة‏:‏ صحّة إقرار السّفيه بالمال سواء لزمه باختياره أو لا، ويتبع به بعد فكّ الحجر عنه، وقيل‏:‏ لا يصحّ مطلقاً، وهو احتمال ذكره ابن قدامة في المقنع في باب الحجر، واختاره هو والشّارح‏.‏

الشّرط الثّالث‏:‏ البلوغ‏:‏

19 - أمّا البلوغ فإنّه ليس بشرطٍ لصحّة الإقرار فيصحّ إقرار الصّبيّ العاقل المأذون له بالدّين والعين، لأنّ ذلك من ضرورات التّجارة، ويصحّ إقراره في قدر ما أذن له فيه دون ما زاد، ونصّ الحنابلة على أنّه المذهب وعليه جمهور الأصحاب، وهو قول أبي حنيفة‏.‏ وقال الشّافعيّ‏:‏ لا يصحّ إقراره بحالٍ لعموم الخبر‏:‏ «رفع القلم عن ثلاثةٍ، عن الصّبيّ حتّى يبلغ، وعن المجنون حتّى يفيق، وعن النّائم حتّى يستيقظ» ولأنّه لا تقبل شهادته، وفي قولٍ عند الحنابلة‏:‏ إنّه لا يصحّ إقرار المأذون له إلاّ في الشّيء اليسير‏.‏ إلاّ أنّه لا يصحّ إقرار المحجور عليه، لأنّه من التّصرّفات الضّارّة المحضة من حيث الظّاهر‏.‏ ويقبل إقرار الصّبيّ ببلوغه الاحتلام في وقت إمكانه، إذ لا يمكن معرفة ذلك إلاّ من جهته، وكذا ادّعاء الصّبيّة البلوغ برؤية الحيض‏.‏ ولو ادّعى البلوغ بالسّنّ قبل ببيّنةٍ، وقيل‏:‏ يصدّق في سنٍّ يبلغ في مثلها، وهي تسع سنين، وقيل‏:‏ عشر سنين، وقيل‏:‏ اثنتا عشرة سنةً، ويلزمه بهذا البلوغ ما أقرّ به‏.‏ وأفتى الشّيخ تقيّ الدّين‏:‏ فيمن أسلم أبوه، فادّعى أنّه بالغ، بأنّه إذا كان لم يقرّ بالبلوغ إلى حين الإسلام فقد حكم بإسلامه قبل الإقرار بالبلوغ‏.‏ وذلك بمنزلة ما إذا ادّعت انقضاء العدّة بعد أن ارتجعها، وقال‏:‏ هذا يجيء في كلّ من أقرّ بالبلوغ بعد حقٍّ ثبت في حقّ الصّبيّ، مثل الإسلام، وثبوت أحكام الذّمّة تبعاً لأبيه‏.‏

الشّرط الرّابع‏:‏ فهم المقرّ لما يقرّ به‏.‏

20 - لا بدّ للزوم الإقرار واعتباره أن تكون الصّيغة مفهومةً للمقرّ فلو لقّن العامّيّ كلماتٍ عربيّةً لا يعرف معناها لم يؤاخذ بها، لأنّه لمّا لم يعرف مدلولها يستحيل عليه قصدها، لأنّ العامّيّ - غير المخالط للفقهاء - يقبل منه دعوى الجهل بمدلول كثيرٍ من ألفاظ الفقهاء، بخلاف المخالط فلا يقبل منه فيما لا يخفى على مثله معناه‏.‏ وبالأولى لو أقرّ العربيّ بالعجميّة أو العكس وقال‏:‏ لم أدر ما قلت، صدّق بيمينه، لأنّه أدرى بنفسه والظّاهر معه‏.‏

الشّرط الخامس‏:‏ الاختيار‏:‏

21 - ويشترط في المقرّ الاختيار، مدعاةً للصّدق، فيؤاخذ به المكلّف بلا حجرٍ، أي حال كونه غير محجورٍ عليه‏.‏ فإذا أقرّ الحرّ البالغ العاقل طواعيةً بحقٍّ لزمه‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إنّه يصحّ من مكلّفٍ مختارٍ بما يتصوّر منه التزامه، بشرط كونه بيده وولايته واختصاصه، ولو على موكّله أو مورثه أو مولّيه‏.‏

الشّرط السّادس‏:‏ عدم التّهمة‏:‏

22 - ويشترط في المقرّ لصحّة إقراره أن يكون غير متّهمٍ في إقراره، لأنّ التّهمة تخلّ برجحان الصّدق على جانب الكذب في إقراره، لأنّ إقرار الإنسان على نفسه شهادة‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء للّه ولو على أنفسكم‏}‏ والشّهادة على نفسه إقرار‏.‏ والشّهادة ترد بالتّهمة‏.‏ ومن أمثلته‏:‏ ما لو أقرّ لمن بينه وبينه صداقة أو مخالطة‏.‏

23 - وممّن يتّهم في إقراره المدين المحجور عليه، لإحاطة الدّين بماله الّذي حجر عليه فيه، وهو ما يعبّر عنه بالمفلس‏.‏

بل صرّح المالكيّة أنّ هذا القيد - ألاّ يكون متّهماً - إنّما يعتبر في المريض ونحوه والصّحيح المحجور عليه، لإحاطة الدّين بماله الّذي حجر عليه فيه‏.‏ والصّحيح‏:‏ أنّ المفلس بالنّسبة لما فلّس فيه متّهم في إقراره، فلا يقبل إقراره لأحدٍ، حيث كان الدّين الّذي فلّس فيه ثابتاً بالبيّنة، لأنّه متّهم على ضياع مال الغرماء، ولا يبطل الإقرار، بل هو لازم يتبع به في ذمّته، ويؤاخذ به المقرّ فيما يجدّ له من مالٍ فقط، ولا يحاصّ المقرّ له الغرماء بالدّين الّذي أقرّ له به المفلس‏.‏

ونقل القاضي عن الإمام أحمد أنّ المفلس إذا أقرّ، وعليه دين ببيّنةٍ، يبدأ بالدّين الّذي بالبيّنة، لأنّه أقرّ بعد تعلّق الحقّ بتركته، فوجب ألاّ يشارك المقرّ له من ثبت دينه ببيّنةٍ، كغريم المفلس الّذي أقرّ له بعد الحجر عليه، وبهذا قال النّخعيّ والثّوريّ وأصحاب الرّأي‏.‏ وفصّل الشّافعيّة، فقالوا‏:‏ لو أقرّ المفلس بعينٍ أو دينٍ وجب قبل الحجر، فالأظهر قبوله في حقّ الغرماء لانتفاء التّهمة الظّاهرة، وقيل‏:‏ لا يقبل إقراره في حقّ الغرماء، لئلاّ يضرّهم بالمزاحمة، ولأنّه ربّما واطأ المقرّ له‏.‏

وإن أسند وجوبه إلى ما بعد الحجر لم يقبل في حقّهم، بل يطالب بعد فكّ الحجر‏.‏ ولو لم يسند وجوبه إلى ما قبل الحجر ولا لما بعده، فقياس المذهب - على ما قاله الرّافعيّ - تنزيله على الأقلّ، وهو جعله كالمسند إلى ما بعد الحجر‏.‏

إقرار المريض مرض الموت

24 - وممّن يتّهم في إقراره‏:‏ المريض مرض موتٍ في بعض الحالات على ما سنبيّنه في مصطلح ‏(‏مرض الموت‏)‏ وإن كان الأصل أنّ المرض ليس بمانعٍ من صحّة الإقرار في الجملة‏.‏ إذ الصّحّة ليست شرطاً في المقرّ لصحّة إقراره، لأنّ صحّة إقرار الصّحيح برجحان جانب الصّدق، وحال المريض أدلّ على الصّدق، فكان إقراره أولى بالقبول‏.‏ غير أنّ المالكيّة نصّوا على أنّ من أقرّ بشيءٍ في صحّته‏:‏ بشيءٍ من المال، أو الدّين، أو البراءات، أو قبض أثمان المبيعات، فإقراره عليه جائز، لا تلحقه فيه تهمة، ولا يظنّ فيه توليج، والأجنبيّ والوارث في ذلك سواء، وكذا القريب والبعيد والعدوّ والصّديق‏.‏

ويقول الحطّاب‏:‏ من أقرّ بشيءٍ في صحّته لبعض ورثته، قدّم المقرّ له بعد موت المقرّ، ويقيم البيّنة على الإقرار‏.‏ قال ابن رشدٍ‏:‏ هذا هو المعلوم من قول ابن القاسم وروايته عن مالكٍ المشهور في المذهب‏.‏ ووقع في المبسوط لابن كنانة والمخزوميّ وابن أبي حازمٍ ومحمّد بن مسلمة أنّه لا شيء له، وإن أقرّ له في صحّته إذا لم يقم عليه بذلك بيّنةً حتّى هلك إلاّ أن يعرف سبب ذلك، فإن عرف ذلك فبها وإلاّ فإذا لم يعرف له سبب فلا شيء له، لأنّ الرّجل يتّهم أن يقرّ بدينٍ في صحّته لمن يثق به من ورثته على ألاّ يقوم به حتّى يموت‏.‏ وقيل‏:‏ إنّه نافذ ويحاصّ به الغرماء في الفلس، وهو قول ابن القاسم في المدوّنة والعتبيّة، وقال ابن رشدٍ‏:‏ لا يحاصّ به على قول ابن القاسم إن ثبت ميله إليه إلاّ باليمين، واختار ابن رشدٍ إبطال الإقرار بالدّين مراعاةً لقول المدنيّين‏.‏

وعلى هذا فإقرار المريض مرض موتٍ بالحدّ والقصاص مقبول اتّفاقاً، وكذا إقراره بدينٍ لأجنبيٍّ فإنّه ينفذ من كلّ ماله ما لم يكن عليه ديون أقرّ بها في حال صحّته عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة، وأصحّ الرّوايات عند الحنابلة، وهو المذهب عندهم، وجزم به في الوجيز، لأنّه لم يتضمّن إبطال حقّ الغير وكان المقرّ له أولى من الورثة، لقول عمر‏:‏ إذا أقرّ المريض بدينٍ جاز ذلك عليه في جميع تركته، ولأنّ قضاء الدّين من الحوائج الأصليّة، وحقّ الورثة يتعلّق بالتّركة بشرط الفراغ‏.‏ وفي رواية عند الحنابلة‏:‏ أنّه لا يقبل، وفي روايةٍ أخرى عندهم لا يصحّ بزيادةٍ على الثّلث‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ أجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم على أنّ إقرار المريض في مرضه لغير وارثٍ جائز، وحكى أصحابنا روايةً أخرى أنّه لا يقبل، لأنّه إقرار في مرض الموت أشبه الإقرار لوارثٍ‏.‏ وقال أبو الخطّاب في روايةٍ أخرى‏:‏ إنّه لا يقبل إقراره بزيادةٍ على الثّلث، لأنّه ممنوع من عطيّة ذلك الأجنبيّ، كما هو ممنوع من عطيّة الوارث، فلا يصحّ إقراره بما لا يملك عطيّته بخلاف الثّلث فما دون‏.‏ والمقصود بالأجنبيّ هنا أن يكون غير وارثٍ في المقرّ فيشمل القريب غير الوارث‏.‏ ويصرّح المالكيّة بذلك فيقولون‏:‏ إن أقرّ لقريبٍ غير وارثٍ كالخال أو لصدّيقٍ ملاطفٍ أو مجهولٍ حاله - لا يدرى هل هو قريب أم لا - صحّ الإقرار إن كان لذلك المقرّ ولد وإلاّ فلا، وقيل‏:‏ يصحّ‏.‏

وأمّا لو أقرّ لأجنبيٍّ غير صديقٍ كان الإقرار لازماً كان له ولد أم لا‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ للوارث تحليف المقرّ له على الاستحقاق‏.‏

وأمّا إقرار المريض لوارثٍ فهو باطل إلاّ أن يصدّقه الورثة أو يثبت ببيّنةٍ عند الحنفيّة والمذهب عند الحنابلة، وفي قولٍ للشّافعيّة‏.‏ وعند المالكيّة‏:‏ إن كان متّهماً في إقراره كأن يقرّ لوارثٍ قريبٍ مع وجود الأبعد أو المساوي، كمن له بنت وابن عمٍّ فأقرّ لابنته لم يقبل وإن أقرّ لابن عمّه قبل، لأنّه لا يتّهم في أنّه يزري ابنته ويوصّل المال إلى ابن عمّه‏.‏ وعلّة منع الإقرار التّهمة، فاختصّ المنع بموضعها‏.‏

وأطال المالكيّة في تصوير ذلك والتّفريع عليه‏.‏ وقالوا‏:‏ من مرض بعد الإشهاد في صحّته لبعض ولده فلا كلام لبقيّة أولاده إن كتب الموثّق أنّ الصّحيح قبض من ولده ثمن ما باعه له، فإن لم يكتب فقيل‏:‏ يحلف مطلقاً‏.‏ وقيل‏:‏ يحلف إن اتّهم الأب بالميل إليه‏.‏

قال الموّاق‏:‏ لا يقبل إقرار المريض لمن يتّهم عليه‏.‏ وسئل المازريّ عمّن أوصى بثلث ماله، ثمّ اعترف بدنانير لمعيّنٍ‏:‏ فأجاب إن اعترف في صحّته حلف المقرّ له يمين القضاء‏.‏ واستدلّ القائلون ببطلان الإقرار بما روي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا وصيّة لوارثٍ، ولا إقرار له بالدّين»، وبالأثر عن ابن عمر أنّه قال‏:‏ ‏"‏ إذا أقرّ الرّجل في مرضه بدينٍ لرجلٍ غير وارثٍ فإنّه جائز وإن أحاط بماله، وإن أقرّ لوارثٍ فهو باطل إلاّ أن يصدّقه الورثة ‏"‏‏.‏ وقول الواحد من فقهاء الصّحابة مقدّم على القياس‏.‏ ولم يعرف لابن عمر في ذلك مخالف من الصّحابة فكان إجماعاً، ولأنّه تعلّق حقّ الورثة بماله في مرضه، ولهذا يمنع من التّبرّع على الوارث أصلاً، ففي تخصيص البعض به إبطال حقّ الباقين‏.‏

وفي كتب الحنابلة‏:‏ لو أقرّت المرأة بأنّها لا مهر لها على زوجها لم يصحّ، إلاّ أن يقيم بيّنةً أنّها أخذته‏.‏

إقرار المريض بالإبراء

25 - إذا أقرّ المريض أنّه أبرأ فلاناً من الدّين الّذي عليه في صحّته لا يجوز، لأنّه لا يملك إنشاء الإبراء للحال، فلا يملك الإقرار به، بخلاف الإقرار باستيفاء الدّين، لأنّه إقرار بقبض الدّين، وأنّه يملك إنشاء القبض فيملك الإخبار عنه بالإقرار‏.‏ وهذا مذهب الحنفيّة‏.‏ ويقرب منهم الشّافعيّة إذ يقولون‏:‏ إذا أبرأ المريض مرض الموت أحد مديونيه، والتّركة مستغرقة بالدّيون، لم ينفذ إبراؤه لتعلّق حقّ الغرماء‏.‏ بينما يقول المالكيّة في باب الإقرار‏:‏ وإن أبرأ إنسان شخصاً ممّا قبله أو أبرأه من كلّ حقٍّ له عليه، أو أبرأه وأطلق بريء مطلقاً ممّا في الذّمّة وغيرها معلوماً أو مجهولاً‏.‏ وهذه العبارة بإطلاقها شاملة للمريض وللصّحيح، وشاملة للإبراء من دين الصّحّة وغيره‏.‏

الرّكن الثّاني‏:‏ المقرّ له، وما يشترط فيه‏:‏

المقرّ له من يثبت له الحقّ المقرّ به، ويحقّ له المطالبة به أو العفو عنه واشترط الفقهاء فيه ما يأتي‏:‏

الشّرط الأوّل‏:‏ ألاّ يكون المقرّ له مجهولاً‏:‏

26 - فلا بدّ أن يكون معيّناً، بحيث يمكن أن يطالب به، ولو كان حملاً‏.‏ كأن يقول‏:‏ عليّ ألف لفلانٍ، أو عليّ ألف لحمل فلانة، وسيأتي تفصيل الإقرار للحمل‏.‏ أو يكون مجهولاً جهالةً غير فاحشةٍ، كأن يقول‏:‏ عليّ مال لأحد هؤلاء العشرة، أو لأحد أهل البلد، وكانوا محصورين عند الشّافعيّة، والنّاطفيّ وخواهر زاده من الحنفيّة‏.‏

الإقرار مع جهالة المقرّ له

27 - أجمع الفقهاء على أنّ الجهالة الفاحشة بالمقرّ له لا يصحّ معها الإقرار، لأنّ المجهول لا يصلح مستحقّاً، إذ لا يجبر المقرّ على البيان، من غير تعيين المستحقّ، فلا يفيد الإقرار شيئاً‏.‏

وأمّا إذا كانت الجهالة غير فاحشةٍ بأن قال‏:‏ عليّ ألف لأحد هذين أو لأحد هؤلاء العشر‏:‏ أو لأحد أهل البلد وكانوا محصورين، فهناك اتّجاهان‏:‏

الأوّل‏:‏ ما ذهب إليه الشّافعيّة، وهو ما اختاره النّاطفيّ وخواهر زاده من الحنفيّة‏.‏ أنّ هذا الإقرار صحيح، لأنّه قد يفيد وصول الحقّ إلى المستحقّ بتحليف المقرّ لكلٍّ من حصرهم، أو بتذكّره، لأنّ المقرّ قد ينسى، وهو ما يفهم من مغني ابن قدامة، لأنّه مثّل بالجهالة اليسيرة‏.‏ والثّاني‏:‏ ما ذهب إليه جمهور الحنفيّة، وهو ما اختاره السّرخسيّ‏:‏ من أنّ أيّ جهالةٍ تبطل الإقرار، لأنّ المجهول لا يصلح مستحقّاً، ولا يجبر المقرّ على البيان، من غير تعيين المدّعي‏.‏

الشّرط الثّاني‏:‏ أن تكون للمقرّ له أهليّة استحقاق المقرّ به حسّاً وشرعاً‏:‏

28 - فلو أقرّ لبهيمةٍ أو دارٍ، بأنّ لها عليه ألفاً وأطلق لم يصحّ الإقرار، لأنّهما ليسا من أهل الاستحقاق‏.‏ أمّا لو ذكر سبباً يمكن أن ينسب إليه، كما لو قال‏:‏ عليّ كذا لهذه الدّابّة بسبب الجناية عليها، أو لهذه الدّار بسبب غصبها أو إجارتها، فالجمهور على أنّ هذا الإقرار صحيح، ويكون الإقرار في الحقيقة لصاحب الدّابّة أو الدّار وقت الإقرار وهو اختيار المرداويّ، كما جزم به صاحب الرّعاية، وابن مفلحٍ في الفروع من الحنابلة‏.‏

لكن جمهور الحنابلة على أنّ هذا الإقرار لا يصحّ، لأنّ هذا الإقرار وقع للدّار وللدّابّة، وهما ليستا من أهل الاستحقاق‏.‏

الإقرار للحمل

29 - إن أقرّ لحمل امرأةٍ عيّنها بدينٍ أو عيّن فقال‏:‏ عليّ كذا، أو عندي كذا لهذا الحمل وبيّن السّبب فقال‏:‏ بإرثٍ أو وصيّةٍ، كان الإقرار معتبراً ولزمه ما أقرّ به لإمكانه‏.‏ وكان الخصم في ذلك وليّ الحمل عند الوضع، إلاّ إذا تمّ الوضع لأكثر من أربع سنين - من حين الاستحقاق مطلقاً - الّتي هي أقصى مدّة الحمل - كما يرى فريق من الفقهاء - أو لستّة أشهرٍ فأكثر - الّتي هي أقلّ مدّة الحمل - وهي فراش لم يستحقّ، لاحتمال حدوث الحمل بعد الإقرار‏.‏ ولا يصحّ الإقرار إلاّ لحملٍ يتيقّن وجوده عند الإقرار، ويكون ذلك بما إذا وضعته لأقلّ من ستّة أشهرٍ، أو لأكثر من ذلك إلى سنتين عند الحنفيّة، وإلى أربعةٍ عند الشّافعيّة‏.‏ وينصّ المالكيّة‏:‏ ولزم الإقرار للحمل، وإن كان الإقرار أصله وصيّةً فله الكلّ، وإن كان بالإرث من الأب - وهو ذكر - فكذلك، وإن كان أنثى فلها النّصف، وإن ولدت ذكراً وأنثى فهو بينهما بالسّويّة إن أسنده إلى وصيّةٍ، وأثلاثاً إن أسنده إلى إرثٍ، إلاّ إذا كانت جهة التّوريث يستوي فيها الذّكر والأنثى كالإخوة لأمٍّ، وإن أسند السّبب إلى جهةٍ لا تمكن في حقّه كقوله‏:‏ باعني شيئاً فلغو للقطع بكذبه، وعند الشّافعيّة قول بغير ذلك‏.‏

وإن أطلق الإقرار ولم يسنده إلى شيءٍ صحّ عند الحنابلة، لإطلاقهم القول بصحّة الإقرار بحال حمل امرأةٍ، لجواز أن يكون له وجه‏.‏ وقال أبو الحسن التّميميّ‏:‏ لا يصحّ إلاّ أن يسنده إلى سببٍ من إرثٍ أو وصيّةٍ، وقيل‏:‏ لا يصحّ مطلقاً‏.‏ قال في النّكت‏:‏ ولا أحسب هذا قولاً في المذهب‏.‏

وصحّ في الأظهر عند الشّافعيّة، ويحمل على الممكن في حقّه، صوناً لكلام المكلّف عن الإلغاء ما أمكن‏.‏ وفي قولٍ عند الشّافعيّة‏:‏ لا يصحّ، إذ المال لا يجب إلاّ بمعاملةٍ أو جنايةٍ، وهما منتفيان في حقّه، فحمل الإطلاق على الوعد‏.‏ وقال أبو يوسف من الحنفيّة‏:‏ إن أجمل الإقرار لا يصحّ، لأنّ الإقرار المبهم يحتمل الصّحّة والفساد، لأنّه إن كان يصحّ بالحمل على الوصيّة والإرث فإنّه يفسد بالحمل على البيع والغصب والقرض، كما أنّ الحمل في نفسه محتمل الوجود والعدم، والشّكّ من وجهٍ واحدٍ يمنع صحّة الإقرار، فمن وجهين أولى‏.‏ وقال محمّد‏:‏ يصحّ حملاً لإقرار العاقل على الصّحّة‏.‏

ولو انفصل الحمل ميّتاً فلا شيء على المقرّ للحمل أو ورثته، للشّكّ في حياته وقت الإقرار‏.‏ فيسأل القاضي المقرّ حسبةً عن جهة إقرارٍ من إرثٍ أو وصيّةٍ ليصل الحقّ لمستحقّه‏.‏ وإن مات المقرّ قبل البيان بطل‏.‏ وإن ألقت حيّاً وميّتاً جعل المال للحيّ‏.‏

الإقرار للميّت

30 - لو قال‏:‏ لهذا الميّت عليّ كذا فذلك إقرار صحيح، وهو إقرار في الحقيقة للورثة يتقاسمونه قسمة الميراث، لكن إن كان المقرّ له حملاً ثمّ سقط ميّتاً بطل الإقرار، إن كان سبب الاستحقاق ميراثاً أو وصيّةً، ويرجع المال إلى ورثة المورث، أو ورثة الموصي‏.‏

الإقرار بالحمل

31 - نصّ الحنفيّة‏:‏ على أنّ من أقرّ لرجلٍ بحمل فرسٍ أو حمل شاةٍ فإنّ إقراره صحيح ولزمه ما أقرّ به، لأنّ له وجهاً صحيحاً وهو الوصيّة بالحمل، بأن تكون الفرس أو الشّاة لواحدٍ، وأوصى بحملها لرجلٍ، ومات والمقرّ وارثه، وقد علم بوصيّةٍ مورثه‏.‏

الإقرار للجهة

32 - الأصل أنّه يصحّ الإقرار لمن كان لديه أهليّة ماليّةٍ أو استحقاقٍ كالوقف والمسجد، فيصحّ الإقرار لهما‏.‏ على نفسه بمالٍ له، ويصرف في إصلاحه وبقاء عينه، كأن يقول ناظر على مسجدٍ أو وقفٍ‏:‏ ترتّب في ذمّتي مثلاً للمسجد أو للوقف كذا‏.‏ فإنّ الإقرار لهذا ومثله كالطّريق والقنطرة والسّقاية، يصحّ، ولو لم يذكر سبباً، كغلّة وقفٍ أو وصيّةٍ، لأنّه إقرار من مكلّفٍ مختارٍ فلزمه، كما لو عيّن السّبب ويكون لمصالحها، فإذا أسنده لممكنٍ بعد الإقرار صحّ‏.‏ وفي وجهٍ عند الحنابلة ذكره التّميميّ‏:‏ أنّ الإقرار للمسجد ونحوه من الجهات لا يصحّ إلاّ مع ذكر السّبب‏.‏

الشّرط الثّالث‏:‏ ألاّ يُكَذّب المقرّ في إقراره‏:‏

33 - يشترط الفقهاء لصحّة الإقرار ألاّ يكذّب المقرّ له المقرّ فيما أقرّ به، فإن كذّبه بطل إقراره لأنّ الإقرار ممّا يرتدّ بالرّدّ إلاّ في بعض مسائل‏:‏ منها الإقرار بالحرّيّة والرّقّ والنّسب وولاء العتاقة والوقف والطّلاق والميراث والنّكاح وابراء الكفيل وإبراء المدين بعد قوله‏:‏ أبرئني‏.‏ فلو قال المقرّ له للمقرّ‏:‏ ليس لي عليك شيء، أو لا علم لي، واستمرّ التّكذيب فلا يؤاخذ بإقراره‏.‏ والتّكذيب يعتبر من بالغٍ رشيدٍ‏.‏

ونصّ الشّافعيّة على أنّه إن كذّب المقرّ له المقرّ وكان قد أقرّ له بعينٍ، ترك المال المقرّ به في يد المقرّ في الأصحّ، لأنّ يده مشعرة بالملك ظاهراً، والإقرار بالطّارئ عارضه التّكذيب فسقط، فتبقى يده على ما معه يد ملكٍ لا مجرّد استحفاظٍ‏.‏ ويقابل الأصحّ أنّ الحاكم ينزعه منه ويحفظه إلى ظهور مالكه‏.‏ وإذا ادّعى المقرّ له جنساً آخر بعد أن كذّب المقرّ حلف المقرّ‏.‏ أمّا إذا أقرّ المقرّ بشيءٍ ثمّ ادّعى أنّه كاذب في إقراره حلف المقرّ له أو وارثه على المفتى به - عند الحنفيّة - أنّ المقرّ لم يكن كاذباً في إقراره‏.‏ وقيل‏:‏ لا يحلف، وفي جامع الفصولين‏:‏ أقرّ فمات فقال ورثته‏:‏ إنّه أقرّ كاذباً فلم يجز إقراره، والمقرّ له عالم به ليس لهم تحليفه، إذ وقت الإقرار لم يتعلّق حقّهم بمال المقرّ فصحّ الإقرار، وحيث تعلّق حقّهم صار حقّاً للمقرّ له‏.‏

الرّكن الثّالث‏:‏ المقرّ به‏:‏

34 - المقرّ به في الأصل نوعان‏:‏ حقّ اللّه تعالى، وحقّ العبد‏.‏ وحقّ اللّه تعالى نوعان‏:‏ حقّ خالص للّه، وحقّ للّه فيه حقّ وللعبد أيضاً‏.‏

ولصحّة الإقرار بحقّ اللّه شروط هي‏:‏ تعدّد الإقرار، ومجلس القضاء والعبارة‏.‏ حتّى إنّ الأخرس إذا كتب الإقرار فيما هو حقّ اللّه بيده، أو بما يعرف أنّه إقرار بهذه الأشياء يجوز، بخلاف الّذي اعتقل لسانه، لأنّ للأخرس إشارةً معهودةً فإذا أتى بها يحصل العلم بالمشار إليه، وليس ذلك لمن اعتقل لسانه، ولأنّ إقامة الإشارة مقام العبارة أمر ضروريّ، والخرس ضرورة لأنّه أصليّ، وكذلك فإنّه لا يشترط لصحّة الإقرار بحقّ اللّه تعالى الصّحو حتّى يصحّ إقرار السّكران، وفي ذلك كلّه تفصيل وخلاف مبيّن في الحدود، وعند الكلام عن حقّ اللّه تعالى‏.‏

وأمّا حقّ العبد فهو المال، من العين والدّين والنّسب والقصاص والطّلاق والعتاق ونحوها، ولا يشترط لصحّة الإقرار بها ما يشترط لصحّة الإقرار بحقوق اللّه تعالى‏.‏ فهي تثبت مع الشّبهات، بخلاف حقوق اللّه تعالى‏.‏ والشّرائط المختصّة بحقوق العباد نوعان‏:‏

نوع يرجع إلى المقرّ له، وهو أن يكون معلوماً على ما سبق،

ونوع يرجع إلى المقرّ به، فيشترط لصحّة الإقرار بالعين والدّين الفراغ عن تعلّق حقّ الغير‏.‏ فإن كان مشغولاً بحقّ الغير لم يصحّ، لأنّ حقّ الغير معصوم محترم، فلا يجوز إبطاله من غير رضاه، فلا بدّ من معرفة وقت التّعلّق‏.‏

35 - ولمّا كان الإقرار إخباراً عن كائنٍ، وذلك قد يكون معلوماً وقد يكون مجهولاً، فإنّ جهالة المقرّ به لا تمنع صحّة الإقرار بغير خلافٍ‏.‏ فلو أتلف على آخر شيئاً ليس من ذوات الأمثال فوجبت عليه قيمته، أو جرح آخر جراحةً ليس لها في الشّرع أرش مقدّر فأقرّ بالقيمة والأرش، فكان الإقرار بالمجهول إخباراً عن المخبر عنه على ما هو به‏.‏ ويجبر على البيان لأنّه هو المجمل، فكان البيان عليه، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا قرأناه فاتّبع قرآنه ثمّ إنّ علينا بيانه‏}‏ ويصحّ بيانه متّصلاً ومنفصلاً، لأنّه بيان محض فلا يشترط فيه الوصل‏.‏ 36 - لا بدّ أن يبيّن شيئاً له قيمة، لأنّه أقرّ بما في ذمّته، وما لا قيمة له لا يثبت في الذّمّة، وإذا بيّن شيئاً له قيمة فإن صدّقه المقرّ له وادّعى عليه زيادةً، أخذ ذلك القدر المعيّن، وأقام البيّنة على الزّيادة، وإلاّ حلّفه عليها إن أراد، لأنّه منكر للزّيادة، والقول قول المنكر مع يمينه، وإن كذّبه وادّعى عليه مالاً آخر أقام البيّنة، وإلاّ حلّفه عليه، وليس له أن يأخذ ما عيّنه، لأنّه أبطل إقراره بالتّكذيب‏.‏

وعلى هذا فإذا قال‏:‏ لفلانٍ عليّ مال، يصدّق في القليل والكثير‏.‏ لأنّ المال اسم ما يتموّل، وهذا يقع على القليل والكثير، ويصحّ بيانه متّصلاً ومنفصلاً‏.‏ وبهذا قال الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏ ونقل ابن قدامة عن أبي حنيفة أنّه لا يقبل تفسيره‏.‏ بغير المال الزّكويّ، وأنّ بعض أصحاب مالكٍ حكوا عنه ثلاثة أوجهٍ‏:‏ أحدها كغير المالكيّة،

والثّاني‏:‏ لا يقبل إلاّ أوّل نصابٍ من نصب الزّكاة من نوع أموالهم،

والثّالث‏:‏ ما يقطع فيه السّارق ويصحّ مهراً‏.‏

ويقول الزّيلعيّ‏:‏ لم يصدّق في أقلّ من درهمٍ، لأنّ ما دونه لا يطلق عليه اسم المال عادةً وهو المعتبر‏.‏ ولو قال‏:‏ له عليّ مال عظيم فالواجب نصاب، لأنّه عظيم في الشّرع حتّى اعتبر صاحبه غنيّاً‏.‏ وعن أبي حنيفة أنّه لا يصدّق في أقلّ من عشرة دراهم، لأنّه نصاب السّرقة والمهر، وهو عظيم حيث تقطع به اليد ويصلح مهراً‏.‏

ويجبره القاضي على البيان، ولا بدّ أن يبيّن ما له قيمة، لأنّ ما لا قيمة له لا يجب في الذّمّة، فإذا بيّن بما لا قيمة له اعتبر رجوعاً، والقول قوله مع يمينه، وإن ادّعى المقرّ له أكثر من ذلك فالقول قول المقرّ مع يمينه‏.‏

ولو أقرّ له بشيءٍ أو حقٍّ، وقال‏:‏ أردت حقّ الإسلام، لا يصحّ إن قاله مفصولاً، ويصحّ إن قاله موصولاً‏.‏ وينصّ المالكيّة على أنّه إن قال‏:‏ لك أحد ثوبين، عيّن المقرّ‏.‏ فإن عيّن له الأدنى حلف إن اتّهمه المقرّ له، وإذا لم يعيّن بأن قال‏:‏ لا أدري‏.‏ قيل للمقرّ له‏:‏ عيّن أنت‏.‏ فإن عيّن أدناهما أخذه بلا يمينٍ، وإن عيّن أجودهما حلف للتّهمة وأخذه، وإن قال‏:‏ لا أدري، حلفا معاً على نفي العلم، واشتركا فيهما بالنّصف‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ لو قال‏:‏ له في هذه الدّار حقّ، أو في هذا الحائط، أو في هذه الأرض، ثمّ فسّر ذلك بجزءٍ منها قبل تفسيره، قليلاً كان أو كثيراً، شائعاً كان أو معيّناً‏.‏

وينصّ الحنابلة على أنّه إن امتنع عن التّفسير حبس حتّى يفسّر، لأنّه ممتنع من حقٍّ عليه، فيحبس به، كما لو عيّنه وامتنع من أدائه‏.‏ وقال القاضي‏:‏ يجعل ناكلاً ويؤمر المقرّ له بالبيان‏.‏ وقالوا‏:‏ إن مات من عليه الحقّ أخذ ورثته بمثل ذلك، لأنّ الحقّ ثبت على مورثهم فيتعلّق بتركته، وقد صارت إلى الورثة، فيلزمهم ما لزم مورثهم، كما لو كان الحقّ مبيّناً، وإن لم يخلّف الميّت تركةً فلا شيء على الورثة‏.‏

ونصّ الشّافعيّة على أنّه لو فسّره بما لا يتموّل - لكن من جنسه - كحبّة حنطةٍ، أو بما يحلّ اقتناؤه ككلبٍ معلّمٍ، قبل في الأصحّ ويحرم أخذه ويجب ردّه‏.‏ وقيل‏:‏ لا يقبل فيهما، لأنّ الأوّل لا قيمة له فلا يصحّ التزامه بكلمة ‏"‏ عليّ ‏"‏، والثّاني‏:‏ ليس بمالٍ، وظاهر الإقرار المال‏.‏ وقالوا‏:‏ لا يقبل تفسيره بنحو عيادة مريضٍ وردّ سلامٍ، إذ لا مطالبة بهما، وهم يشترطون أن يكون المقرّ به ممّا يجوز به المطالبة‏.‏ أمّا لو كان قال‏:‏ له عليّ حقّ، فإنّه يقبل لشيوع الحقّ في استعمال كلّ ذلك‏.‏

وكذلك يصرّح الحنابلة بأنّه متى فسّر إقراره بما يتموّل في العادة قبل تفسيره وثبت، إلاّ أن يكذّبه المقرّ له، ويدّعي جنساً آخر أو لا يدّعي شيئاً، فبطل إقراره، وكذا إن فسّره بما ليس بمالٍ في الشّرع، وإن فسّره بكلبٍ غير جائزٍ اقتناؤه فكذلك‏.‏ وإن فسّره بكلبٍ يجوز اقتناؤه، أو جلد ميتةٍ غير مدبوغٍ ففيه وجهان، الأوّل‏:‏ يقبل لأنّه شيء يجب ردّه، والوجه الثّاني‏:‏ لا يقبل، لأنّ الإقرار إخبار عمّا يجب ضمانه وهذا لا يجب ضمانه، غير أنّهم قالوا‏:‏ إن فسّره بحبّة حنطةٍ أو شعيرٍ لم يقبل، لأنّ هذا لا يتموّل عادةً على انفراده‏.‏ وقالوا أيضاً‏:‏ إن فسّره بحقّ شفعةٍ قبل، لأنّه حقّ واجب ويئول إلى مالٍ، وإن فسّره بحدّ قذفٍ قبل، لأنّه حقّ يجب عليه - وهم في ذلك كالشّافعيّة - غير أنّهم قالوا بالنّسبة لحدّ القذف‏:‏ يحتمل ألاّ يقبل لأنّه لا يئول إلى مالٍ، والأوّل أصحّ وإن فسّره بردّ سلامٍ أو تشميت عاطسٍ ونحوه لم يقبل - خلافاً للشّافعيّة - لأنّه يسقط بفواته فلا يثبت في الذّمّة، وقالوا‏:‏ يحتمل أن يقبل تفسيره، فهم في هذا كالشّافعيّة‏.‏

37 - ولو كان المقرّ به معلوم الأصل ومجهول الوصف، نحو أن يقول‏:‏ إنّه غصب من فلانٍ ثوباً من العروض، فيصدّق في البيان من جنس ذلك سليماً كان أو معيباً، لأنّ الغصب يردّ على السّليم والمعيب عادةً، وقد بيّن الأصل وأجّل الوصف، فيرجع في بيان الوصف إليه فيصحّ منفصلاً، ومتى صحّ بيانه يلزمه الرّدّ إن قدر عليه، وإن عجز عنه تلزمه القيمة وإن قال‏:‏ غصبت شيئاً فطلب منه البيان ففسّره بما ليس بمالٍ قبل، لأنّ اسم الغصب يقع عليه‏.‏ قال ابن قدامة‏:‏ وهو مذهب الشّافعيّ‏.‏ وحكي عن أبي حنيفة أنّه لا يقبل تفسيره بغير المكيل والموزون ممّا لا يثبت في الذّمّة بنفسه‏.‏

ولو أقرّ بأنّ ما عنده لغيره كان رهناً، فقال المقرّ له‏:‏ بل وديعة، فالقول قول المقرّ له ‏(‏المالك‏)‏ لأنّ العين تثبت بالإقرار، وادّعى المقرّ ديناً لا يعترف له به والقول قول المنكر، ولأنّه أقرّ بمالٍ لغيره وادّعى أنّ له به تعلّقاً ‏(‏حقّاً في الاحتباس‏)‏ فلم يقبل، كما لو ادّعاه بكلامٍ منفصلٍ، وكذلك لو أقرّ له بدارٍ وقال‏:‏ استأجرتها، أو بثوبٍ وادّعى أنّه خاطه بأجرٍ يلزم المقرّ له‏.‏ لم يقبل لأنّه مدّعٍ على غيره حقّاً فلا يقبل قوله إلاّ ببيّنةٍ‏.‏

وإن قال‏:‏ لك عليّ ألف من ثمن مبيعٍ لم أقبضه، فقال المدّعى عليه‏:‏ بل لي عليك ألف ولا شيء لك عندي‏.‏ قال أبو الخطّاب‏:‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏.‏ القول قول المقرّ له، لأنّه اعترف له بالألف وادّعى عليه مبيعاً، فأشبه ما إذا قال‏:‏ هذا رهن فقال المالك‏:‏ وديعة، أو له عليّ ألف لم أقبضها‏.‏

الثّاني‏:‏ القول قول المقرّ وهو قياس المذهب، وهو قول الشّافعيّ وأبي يوسف، لأنّه أقرّ بحقٍّ في مقابلة حقٍّ له ولا ينفكّ أحدهما عن الآخر‏.‏ ويصرّح ابن قدامة بأنّ الشّهادة على الإقرار بالمجهول تقبل، لأنّ الإقرار به صحيح، وما كان صحيحاً في نفسه صحّت الشّهادة به كالمعلوم‏.‏

38 - ونصّ الشّافعيّة على أنّه يشترط في المقرّ به لصحّة الإقرار ألاّ يكون ملكاً للمقرّ حين يقرّ، لأنّ الإقرار ليس إزالةً عن الملك، وإنّما هو إخبار عن كونه ملكاً للمقرّ له، فلا بدّ من تقديم المخبر عنه على الخبر، فلو قال‏:‏ داري أو ثوبي أو ديني الّذي على زيدٍ لعمرٍو ولم يرد الإقرار فهو لغو، لأنّ الإضافة إليه تقتضي الملك له، فينافي إقراره لغيره ويحمل على الوعد بالهبة‏.‏ ولو قال‏:‏ هذا لفلانٍ وكان ملكي إلى أن أقررت به، فأوّل كلامه إقرار، وآخره لغو، فليطرح آخره فقط، ويعمل بأوّله، لاشتماله على جملتين مستقلّتين‏.‏

39 - كما اشترطوا لإعمال الإقرار - أي التّسليم لا لصحّته، أن تكون العين المقرّ بها في يد المقرّ حسّاً أو حكماً، كالمعار أو المؤجّر تحت يد الغير، لأنّه عند انتفاء يده عنه يكون مدّعياً أو شاهداً، ومتى حصل بيده لزمه تسليمه، لأنّ هذا الشّرط ليس شرط صحّةٍ‏.‏ فلو أقرّ ولم يكن في يده ثمّ صار في يده عمل بمقتضى إقراره، واستثنوا من اشتراط أن يكون في يده ما لو باع بشرط الخيار له أو لهما، ثمّ ادّعاه رجل، فأقرّ البائع في مدّة الخيار له به فإنّه يصحّ‏.‏ أمّا لو كانت العين في يده باعتباره نائباً عن غيره كناظر وقفٍ ووليّ محجورٍ فلا يصحّ إقراره‏.‏ وكذلك صرّح الحنابلة باشتراط أن يكون المقرّ به بيد المقرّ وولايته واختصاصه، فلا يصحّ إقراره بشيءٍ في يد غيره، أو في ولاية غيره، كما لو أقرّ أجنبيّ على صغيرٍ، أو وقفٍ في ولاية غيره أو اختصاصه، لكنّهم قالوا بصحّة إقراره بمالٍ في ولايته واختصاصه، كأن يقرّ وليّ اليتيم ونحوه أو ناظر الوقف، لأنّه يملك إنشاء ذلك‏.‏ واشترطوا أن يتصوّر التزام المقرّ بما أقرّ به، أي أن يمكن صدقه، فلو أقرّ بارتكابه جنايةً منذ عشرين سنةً وعمره لا يتجاوز العشرين، فإنّ إقراره لا يصحّ‏.‏

الرّكن الرّابع‏:‏ الصّيغة‏:‏

40 - الصّيغة هي ما يظهر الإرادة من لفظٍ، أو ما يقوم مقامه من كتابةٍ أو إشارةٍ، وإظهار الإرادة لا بدّ منه، فلا عبرة بالإرادة الباطنة‏.‏

يقول السّرخسيّ‏:‏ إنّ ما يكون بالقلب فهو نيّة، والنّيّة وحدها لا تكفي، ويقول ابن القيّم‏:‏ إنّ اللّه تعالى وضع الألفاظ بين عباده تعريفاً ودلالةً على ما في نفوسهم، فإذا أراد أحدهم من الآخر شيئاً عرّفه بمراده وما في نفسه بلفظه، ورتّب على تلك الإرادات والمقاصد أحكامها بواسطة الألفاظ، ولم يرتّب تلك الأحكام على مجرّد ما في النّفوس من غير دلالة فعلٍ أو قولٍ، ولا على مجرّد ألفاظٍ مع العلم بأنّ المتكلّم بها لم يرد معانيها‏.‏

وصيغة الإقرار نوعان‏:‏ صريح ودلالة‏.‏ فالصّريح نحو أن يقول‏:‏ لفلانٍ عليّ ألف درهمٍ، لأنّ كلمة ‏(‏عليّ‏)‏ كلمة إيجابٍ لغةً وشرعاً‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وللّه على النّاس حجّ البيت‏.‏‏.‏‏}‏ وكذا لو قال لرجلٍ‏:‏ هل لي عليك ألف درهمٍ ‏؟‏ فقال الرّجل‏:‏ نعم‏.‏ لأنّ كلمة نعم بمثابة إعادةٍ لكلامه، وكذا لو قال‏:‏ لفلانٍ في ذمّتي ألف درهمٍ، لأنّ ما في الذّمّة هو الدّين، فيكون إقراراً بالدّين‏.‏

هذا ما مثّل به الحنفيّة، ولا تخرج أمثلة غيرهم عن ذلك، والعرف في هذا هو المرجع‏.‏ والأمر بكتابة الإقرار إقرار حكماً، إذ الإقرار كما يكون باللّسان يكون بالبنان، فلو قال للكاتب‏:‏ اكتب إقراراً بألفٍ عليّ لفلانٍ، صحّ الإقرار واعتبر، كتب أو لم يكتب‏.‏

ويقول ابن عابدين‏:‏ إنّ الكتابة المرسومة المعنونة كالنّطق بالإقرار، ولا فرق بين أن تكون الكتابة بطلبٍ من الدّائن أو بلا طلبه‏.‏ ونقل عن الأشباه لابن نجيمٍ أنّه إذا كتب ولم يقل شيئاً لا تحلّ الشّهادة، لأنّ الكتابة قد تكون للتّجربة‏.‏ ولو كتب أمام الشّهود وقال‏:‏ اشهدوا عليّ بما فيه، كان إقراراً إن علموا بما فيه وإلاّ فلا‏.‏

والإيماء بالرّأس من النّاطق ليس بإقرارٍ إلاّ في النّسب والإسلام والكفر والإفتاء‏.‏

وأمّا الصّيغة الّتي تفيد الإقرار دلالةً فهي أن يقول له رجل‏:‏ لي عليك ألف، فيقول‏:‏ قد قبضتها، لأنّ القضاء اسم لتسليم مثل الواجب في الذّمّة، فيقتضي ما يعيّن الوجوب، فكان الإقرار بالقضاء إقراراً بالوجوب، ثمّ يدّعي الخروج عنه بالقضاء فلا يصحّ إلاّ بالبيّنة، وكذا إذا قال‏:‏ أجّلني بها‏.‏ لأنّ التّأجيل تأخير المطالبة مع قيام أصل الدّين في الذّمّة‏.‏

الصّيغة من حيث الإطلاق والتّقييد

الصّيغة قد تكون مطلقةً كما تقدّم، وقد تكون مقترنةً‏.‏ والقرينة في الأصل نوعان‏:‏

41 - أ - قرينة مبيّنة ‏(‏على الإطلاق‏)‏، وهي المعيّنة لبعض ما يحتمله اللّفظ، فإن كان اللّفظ يحتمل المعنيين على السّواء صحّ بيانه متّصلاً كان البيان أو منفصلاً، وإن كان لأحد الاحتمالين رجحان تسبق إليه الأفهام من غير قرينةٍ لا يصحّ إن كان البيان منفصلاً، ويصحّ بالنّسبة للمتّصل إذا لم يتضمّن الرّجوع‏.‏

وبصفةٍ عامّةٍ إذا كانت القرينة منفصلةً عن الإقرار بأن قال‏:‏ لفلانٍ عليّ عشرة دراهم وسكت، ثمّ قال‏:‏ إلاّ درهماً، لا يصحّ الاستثناء عند كافّة العلماء وعامّة الصّحابة، إلاّ ما روي عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما أنّه يصحّ، لأنّ الاستثناء بيان فيصحّ متّصلاً ومنفصلاً‏.‏ ووجه قول العامّة أنّ صيغة الاستثناء إذا انفصلت عن الجملة الملفوظة لا تكون كلام استثناءٍ لغةً، وقالوا‏.‏ إنّ الرّواية عن ابن عبّاسٍ لا تكاد تصحّ‏.‏ وبيان ذلك تفصيلاً سبق في مصطلح ‏(‏استثناء‏)‏‏.‏

42-ب- قرينة مغيرة ‏(‏من حيث الظاهر‏)‏ مبنية ‏(‏حقيقة‏)‏، وهذه يتغير بها الاسم لكن يتبين بها المراد، فكان تغييراً صورة،تبييناً معنى، ومنه ما يلي‏:‏

أ- تعليق الإقرار على المشيئة‏:‏

43- القرينة المغيرة قد تدخل على أصل الإقرار،، وتكون متصلة به، كتعليق الإقرار على مشيئة الله أو مشيئة فلان‏.‏ وهذا يمنع صحة الإقرار عند الحنفية، لأن التعليق على المشيئة يجعل الأمر محتملاً‏.‏ والإقرار إخبار عن كائن، والكائن لا يحتمل التعليق‏.‏ وهو ما ذهب إليه ابن المواز وابن عبد الحكم من المالكية إذ قالا‏:‏ لو علق الإقرار على المشيئة لم يلزمه شيء، وكأنه أدخل ما يوجب الشك، وهو مفاد قول الشافعية فيمن قرن إقراره بقوله فيما أحسب أو أظن، إذ قالوا‏:‏ إنه لغو، لعدم اللزوم على المذهب، لأنه علق مشيئة إقراره على شرط فلم يصح، ولأن ما علق على مشيئة الله لا سبيل إلى معرفته‏.‏ قال الشيرازي‏:‏ إن قال‏:‏له عليّ ألف إن شاء الله لم يلزمه شيء، لأن ما علق على مشيئة الله تعالى لاسبيل إلى معرفته، وإن قال‏:‏ له علي ألف إن شاء زيد أو قدم فلان لم يلزمه شيء‏.‏

ويرى المالكية –عدا ابن المواز وابن عبد الحكم –وكذا الحنابلة أن الإقرار يلزمه، نص عليه أحمد، وقال سحنون‏:‏أجمع أصحابنا على ذلك‏.‏غير أن الحنابلة يفرقون بين التعليق على مشيئة الله، وبين التعليق على مشيئة الأشخاص‏.‏

يقول ابن قدامة‏:‏ لأنه أقر ثم علق رفع الإقرار على أمر لايعلم فلم يرتفع‏.‏ وإن قال‏:‏لك علي ألف إن شئت، أو إن شاء زيد لم يصح الإقرار، ولأنه علقه على شرط يمكن علمه فلم يصح‏.‏ ويفارق التعليق على مشئية الله تعالى، لأنها كثيراً ما تذكر تبركاً وصلة وتفويضاً إلى الله، لا للاشتراط، لقوله تعالى ‏{‏لتدخُلُنّ المسجدَ الحرامَ إن شاء الله آمنِين‏}‏ بخلاف مشيئة الآدمي، كما أن مشيئته تعالى لا تعلم إلا بوقوع الأمر، فلا يمكن وقف الأمر على وجودها، ومشيئة الآدمي يمكن العلم بها فيمكن جعلها شرطاً يتوقف الأمرعلى وجودها، ويتعين حمل الأمر هنا على المستقبل، فيكون وعداً لا إقراراً‏.‏

وقال القاضي‏:‏ لو علق الإقرار على مشيئة المقر له أو شخص آخر صح الإقرار، لأنه عقبه بما يرفعه، فصح الإقرار دون ما رفعه‏.‏ أي كأنه أقر ثم رجع فلا يصح رجوعه‏.‏

ب - تعليق الإقرار على شرطٍ‏:‏

44 - وضع الحنابلة قاعدةً عامّةً بأنّ كلّ إقرارٍ معلّقٍ على شرطٍ ليس بإقرارٍ، لأنّه ليس بمقرٍّ في الحال، وما لا يلزمه في الحال لا يصير واجباً عند وجود الشّرط، لأنّ الشّرط لا يقتضي إيجاب ذلك‏.‏ ونصّ الحنفيّة على أنّه لو أقرّ بشيءٍ على أن يكون له خيار الشّرط، فإنّ الإقرار صحيح ويبطل الشّرط، لأنّ شرط الخيار في معنى الرّجوع، والإقرار في حقوق العباد لا يحتمل الرّجوع، لأنّ الإقرار إخبار فلا يقبل الخيار، وهو مذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، لأنّ ما يذكره المقرّ بعد الإقرار يعتبر رفعاً له فلا يقبل كالاستثناء‏.‏

ج - تغيير وصف المقَرّ به‏:‏

45 - إن كان التّغيير متّصلاً باللّفظ كأن يقول‏:‏ لفلانٍ عليّ ألف درهمٍ وديعة‏.‏ كان إقراراً الوديعة، أمّا إن كان منفصلاً، بأن سكت ثمّ قال‏:‏ هي وديعة فلا يصحّ، ويكون إقراراً بالدّين، لأنّ البيان هنا لا يصحّ إلاّ بشرط الوصل، ولو قال‏:‏ عليّ ألف درهمٍ وديعة قرضاً أو ديناً، فهو إقرار بالدّين، لجواز أن يكون أمانةً في الابتداء ثمّ يصير مضموناً في الانتهاء، إذ الضّمان قد يطرأ على الأمانة متّصلاً كان أو منفصلاً، لأنّ الإنسان في الإقرار بالضّمان غير متّهمٍ‏.‏

د - الاستثناء في الإقرار‏:‏

46 - إن كان الاستثناء من جنس المستثنى منه ومتّصلاً به، فإن كان استثناء الأقلّ فلا خلاف في جوازه، كأن يقول‏:‏ عليّ لفلانٍ عشرة دراهم إلاّ ثلاثةً فيلزمه سبعة‏.‏ أمّا إن كان استثناء الأكثر بأن قال‏:‏ عليّ لفلانٍ عشرة دراهم إلاّ تسعةً فجائز في ظاهر الرّواية عند الحنفيّة، ويلزمه درهم وهو الصّحيح، لأنّ الاستثناء تكلّم بالباقي بعد الثّنيا، وهذا المعنى كما يوجد في استثناء الأقلّ يوجد في استثناء الأكثر من القليل، وإن كان غير مستحسنٍ عند أهل اللّغة، وروي عن أبي يوسف أنّه لا يصحّ وعليه العشرة‏.‏

وإن كان استثناء الكلّ من الكلّ بأن يقول‏:‏ لفلانٍ عليّ عشرة دنانير إلاّ عشرةً فباطل، وعليه العشرة كاملةً، لأنّه ليس استثناءً، وإنّما هو إبطال ورجوع، والرّجوع عن الإقرار في حقّ العباد لا يصحّ‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ يصحّ الاستثناء وهو إخراج ما لولاه لدخل بنحو إلاّ، وذلك إن اتّصل إجماعاً، والسّكوت اليسير غير مضرٍّ، ويضرّ كلام أجنبيّ يسير أو سكوت طويل، ويشترط أن يقصده قبل فراغ الإقرار، ولكونه رفعاً لبعض ما شمله اللّفظ احتاج إلى نيّةٍ ولو كان إخباراً، ولم يستغرق المستثنى المستثنى منه، فإن استغرقه كخمسةٍ إلاّ خمسةً كان باطلاً بالإجماع إلاّ من شذّ، لما في ذلك من المناقضة الصّريحة‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ لو قال‏:‏ عليّ ألف إلاّ ستّمائةٍ لزمه الألف لأنّه استثنى الأكثر، ولم يرد ذلك في لغة العرب‏.‏

هـ – الاستثناء من خلاف الجنس‏:‏

47 – إن كان الاستثناء من خلاف الجنس – ما لا يثبت ديناً في الذّمّة – فلا يصحّ عند الحنفيّة، وعليه جميع ما أقرّ به، فإن قال‏:‏ له عليّ عشرة دراهم إلاّ ثوباً بطل الاستثناء، خلافاً للشّافعيّة‏.‏ وإن كان ممّا يثبت ديناً في الذّمّة بأن قال‏:‏ لفلانٍ عليّ مائة دينارٍ إلاّ عشرة دراهم أو إلاّ قفيز حنطةٍ، صحّ عند الشّيخين، ويطرح ممّا أقرّ به قدر قيمة المستثنى، لأنّه إن لم يمكن تحقيق معنى المجانسة في الاسم أمكن تحقيقها في الوجوب في الذّمّة، فالدّراهم والحنطة من حيث احتمال الوجوب في الذّمّة من جنس الدّنانير، وقال محمّد بن الحسن وزفر‏:‏ إنّ الاستثناء استخراج بعض ما لولاه لدخل تحت نصّ المستثنى منه، وذلك لا يتحقّق إلاّ إذا اتّحد الجنس‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ لا يصحّ الاستثناء من غير الجنس ولا من غير النّوع على ما هو المذهب وعليه جماهير الأصحاب‏.‏

أمّا الشّافعيّة فقد نصّوا على أنّه يصحّ الاستثناء من خلاف الجنس لورود الكتاب وغيره بذلك، يقول اللّه سبحانه‏:‏ ‏{‏لا يسمعون فيها لغواً إلاّ سلاماً‏}‏ ويقول‏:‏ ‏{‏ما لهم به من علمٍ إلاّ اتّباع الظّنّ‏}‏ وقالوا‏:‏ ويلزم المقرّ بالبيان، فلو كان أقرّ لآخر بألف درهمٍ إلاّ ثوباً لزمه البيان بثوبٍ قيمته دون الألف‏.‏

وقالوا‏:‏ ويصحّ الاستثناء من المعيّن كهذه الدّار إلاّ هذا البيت‏.‏

و - تعقيب الإقرار بما يرفعه‏:‏

48 - قال المالكيّة‏:‏ لو عقّب الإقرار بما يرفعه بأن قال‏:‏ لك عليّ ألف من ثمن خمرٍ أو خنزيرٍ لم يلزمه شيء، إلاّ أن يقول الطّالب ‏(‏المقرّ له‏)‏‏:‏ هي ثمن برٍّ أو ما يشبهه فيلزمه مع يمين الطّالب‏.‏ ولو قال‏:‏ عليّ ألف من ثمن كذا ثمّ قال‏:‏ لم أقبض المبيع، قال ابن القاسم وسحنون وغيرهما‏:‏ يلزمه الثّمن ولا يصدّق في عدم القبض‏.‏ وقيل‏:‏ القول قوله‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ إذا وصل بإقراره ما يغيّره أو يسقطه، كأن يقول‏:‏ عليّ ألف من ثمن خمرٍ أو استوفاه الدّائن أو من ثمن مبيعٍ فاسدٍ لم أقبضه لزمه الألف، لأنّ كلّ ما ذكره بعد الإقرار بالألف يعتبر رفعاً له فلا يقبل، كاستثناء الكلّ‏.‏

وفي قوله له‏:‏ عليّ من ثمن خمرٍ أو خنزيرٍ ألف لا يجب‏.‏ ولو قال‏:‏ كان له عليّ ألف وقضيته إيّاه، أو أبرأني منه، أو قضيت منها خمسمائةٍ، فهو منكر، لأنّه قول يمكن صدقه ولا تناقض فيه من جهة اللّفظ، فوجب قبول قوله بيمينه وهو المذهب‏.‏ ولا يلزمه شيء كاستثناء البعض استثناءً متّصلاً، بخلاف استثناء البعض المنفصل، لأنّ الحقّ قد استقرّ بسكوته فلا يرفعه استثناء ولا غيره‏.‏ ولا يصحّ استثناء ما زاد على النّصف، ويصحّ في النّصف - على ما هو المذهب - فما دونه من غير خلافٍ لأنّه لغة العرب‏.‏

ز - تقييد الإقرار بالأجل‏:‏

49 - إذا أقرّ شخص بدينٍ عليه لآخر وقال‏:‏ إنّه مؤجّل، وادّعى المقرّ له حلوله ولزومه، أي صدقه في الدّين وكذبه في التّأجيل، فإنّ الدّين يلزمه حالاً عند الحنفيّة، وهو قول للمالكيّة، لأنّه أقرّ على نفسه بمالٍ، وادّعى حقّاً لنفسه أنكره المقرّ له، فالقول للمنكر بيمينه‏.‏ والقول الآخر للمالكيّة أنّ المقرّ يحلف، ويقبل قوله في التّنجيم والتّأجيل، وقد اختلف في يمين المقرّ، وهذا أحوط، وبه كان يقضي متقدّمو قضاة مصر وهو مذهب كلٍّ من الشّافعيّة والحنابلة‏.‏

ح - الاستدراك في الإقرار‏:‏

50 - قال الحنفيّة‏:‏ إن كان الاستدراك في القدر، فهو على ضربين‏:‏ إمّا أن يكون في الجنس كأن يقول‏:‏ لفلانٍ عليّ ألف درهمٍ لا بل ألفان، فعليه ألفان وهو قول الجمهور‏.‏ وقيل‏:‏ يكون عليه ثلاثة آلافٍ، وهو قول زفر وهو القياس، والأوّل استحسان‏.‏ وجه الاستحسان أنّ الإقرار إخبار، والمخبر عنه ما يجري الغلط في قدره أو وصفه عادةً، فقبل الاستدراك ما لم يكن متّهماً فيه‏.‏ بخلاف الاستدراك في خلاف الجنس لأنّ الغلط لا يقع فيه عادةً‏.‏ ووجه القياس أنّ قوله‏:‏ لفلانٍ عليّ ألف درهمٍ إقرار بألفٍ وهذا لا رجوع فيه، والاستدراك صحيح، فأشبه الاستدراك في خلاف الجنس، فأشبه ما لو قال لامرأته‏:‏ أنت طالق واحدةً بل ثنتين، إذ يقع ثلاث تطليقاتٍ‏.‏

وإن كان الاستدراك في صفة المقرّ به، فعليه أرفع الصّفتين، لأنّه غير متّهمٍ في ذلك، أمّا بالنّسبة لأنقصهما فهو متّهم، فكان مستدركاً في الزّيادة راجعاً في النّقصان، فيصحّ استدراكه ولا يصحّ رجوعه، وإن أرجع الاستدراك إلى المقرّ له، بأن قال‏:‏ هذه الألف لفلانٍ بل لفلانٍ، وادّعاها كلّ واحدٍ منهما كانت لمن أقرّ له أوّلاً، لأنّه لمّا أقرّ له بها صحّ إقراره له، فصار واجب الدّفع إليه، فقوله بعد ذلك رجوع عن الإقرار الأوّل فلا يصحّ في حقّه، وصحّ إقراره بها للثّاني في حقّه - أي الثّاني - لكن إن دفعه للأوّل بغير قضاءٍ ضمن للثّاني، لإتلافها عليه بدفعها للأوّل‏.‏

هذا بخلاف ما لو قال‏:‏ غصبت هذا الشّيء من فلانٍ لا بل من فلانٍ، فإنّه يدفعه للأوّل ويضمن للثّاني، سواء دفعه للأوّل بقضاءٍ أو بغير قضاءٍ، لأنّ الغصب سبب لوجوب الضّمان، فكان الإقرار به إقراراً بوجود سبب وجوب الضّمان، وهو ردّ القيمة عند القدرة وقيمتها عند العجز، وقد عجز عن ردّها إلى المقرّ له الثّاني، فيلزمه ردّ قيمتها‏.‏

عدم اشتراط القبول في صحّة الإقرا

51 - الإقرار ليس بعقدٍ حتّى تتكوّن صيغته من إيجابٍ وقبولٍ‏.‏ وإنّما هو تصرّف قوليّ والتزام من جانب المقرّ وحده، فليس القبول شرطاً لصحّة الإقرار، لكنّه يرتدّ بالرّدّ، والملك يثبت للمقرّ له بلا تصديقٍ وقبولٍ، ولكن يبطل بردّه، فالإقرار للحاضر يلزم من جانب المقرّ حتّى لا يصحّ إقراره لغيره به قبل ردّه، ولا يلزم من جانب المقرّ له فيصحّ ردّه‏.‏ أمّا الإقرار للغائب فإنّه وإن كان صحيحاً إلاّ أنّه لا يلزم، وإنّما يتوقّف لزومه على عدم الرّدّ، ولعدم لزومه للمقرّ صحّ إقراره لغيره، كما لا يلزم المقرّ له فيصحّ له ردّه‏.‏ وكلّ من أقرّ لرجلٍ بملكٍ فكذّبه به بطل إقراره، لأنّه لا يثبت للإنسان ملك لا يعترف به، والإقرار بما في الذّمّة ليس من التّبرّعات، وفي المال وجهان‏:‏ يترك في يد المقرّ لأنّه كان محكوماً له به فإذا بطل إقراره بقي على ما كان عليه‏.‏ وقيل‏:‏ يؤخذ إلى بيت المال لأنّه لم يثبت له مالك‏.‏ وقيل‏:‏ يؤخذ فيحفظ حتّى يظهر مالكه، لأنّه لا يدّعيه أحد‏.‏ فإن عاد أحدهما فكذّب نفسه دفع إليه، لأنّه يدّعيه ولا منازع له فيه‏.‏

الصّوريّة في الإقرار

52 - لمّا كان الإقرار إخباراً يحتمل الصّدق والكذب جاز تخلّف مدلوله الوضعيّ، بمعنى أنّه قد يكون في الحقيقة كاذباً يترتّب عليه أثره لزوماً‏.‏ فإذا ادّعى أنّ مورثه أقرّ تلجئةً، قال بعضهم‏:‏ له تحليف المقرّ له، ولو ادّعى أنّه أقرّ كاذباً لا يقبل‏.‏ ووجه الفرق‏:‏ أنّ في التّلجئة يدّعي الوارث على المقرّ له فعلاً له، وهو تواطؤه مع المقرّ في السّرّ، فلذا يحلف بخلاف دعوى الإقرار كاذباً كما لا يخفى‏.‏

ونقل الموّاق عن سماع أشهب وابن نافعٍ لو سأل شخص ابن عمّه أن يسكنه منزلاً فقال‏:‏ هو لزوجتي، ثمّ قال‏:‏ لثانٍ ولثالثٍ كذلك، ثمّ طلبت امرأته بذلك فقال‏:‏ إنّما قلته اعتذاراً لنمنعه، فلا شيء لها بذلك الإقرار‏.‏ أي لا يعتبر كلامه إقراراً‏.‏ ويقول الشّيخ منصور البهوتيّ الحنبليّ‏:‏ إذا خاف شخص أن يأخذ آخر ماله ظلماً جاز له الإقرار - صورةً - بما يدفع هذا الظّلم، ويحفظ المال لصاحبه‏.‏ مثل أن يقرّ بحاضرٍ أنّه ابنه أو أخوه أو أنّ له عليه كذا ديناً، ويتأوّل في إقراره، بأن يعني بكونه ابنه صغره، أو بقوله أخي أخوّة الإسلام‏.‏ والاحتياط أن يشهد على المقرّ له أنّ هذا الإقرار تلجئة، تفسيره كذا وكذا‏.‏ وعلى هذا فالإقرار لا يعتبر ما دام قد ثبتت صوريّته، وقواعد الشّافعيّة لا تأبى ذلك‏.‏

التّوكيل في الإقرار

53 - الأصل أنّ التّوكيل يجوز في كلّ ما يقبل النّيابة، ومن ذلك الإقرار، كما هو مذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وفي قولٍ عند الشّافعيّة، إذ الإخبار من الموكّل حقيقةً، ومن الوكيل حكماً، لأنّ فعل الوكيل كفعل الموكّل، فكأنّ الإقرار صدر ممّن عليه الحقّ‏.‏ وصرّح الشّافعيّة بأنّ إقرار الوكيل بالتّصرّف إذا أنكره الموكّل لا ينفذ، كما صرّح المالكيّة بأنّ إقرار الوكيل يلزم الموكّل إن كان مفوّضاً أو جعل له الإقرار‏.‏ والأصحّ عند الشّافعيّة‏:‏ أنّ التّوكيل في الإقرار لا يجوز‏.‏ نعم يكون بالتّوكيل بالإقرار مقرّاً لثبوت الحقّ عليه‏.‏ وبالنّسبة لإقرار الوكيل بالخصومة فإنّه لا يقبل إقراره بقبض الدّين إلاّ إذا كان قد فوّض في ذلك عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وابن أبي ليلى، لأنّ الإقرار معنًى يقطع الخصومة وينافيها فلا يملكه الوكيل، ولأنّ الإذن في الخصومة لا يقتضي الإقرار، فإن أقرّ بشيءٍ لم يلزم الموكّل ما أقرّ به، ويكون الوكيل كشاهدٍ‏.‏ وقال أبو حنيفة ومحمّد بن الحسن‏:‏ يقبل إقراره في مجلس الحكم فيما عدا الحدود والقصاص، وقال أبو يوسف‏:‏ يقبل إقراره في مجلس الحكم وغيره، لأنّ الإقرار أحد جوابي الدّعوى، فصحّ من الوكيل بالخصومة كما يصحّ منه الإنكار، لكنّ الحنفيّة يتّفقون على أنّ الموكّل إذا نصّ في عقد الوكالة على أنّ الوكيل ليس له الإقرار، لم يكن له حقّ الإقرار في ظاهر الرّواية، فلو أقرّ عند القاضي لا يصحّ، وخرج به عن الوكالة، كما نصّوا على أنّ التّوكيل بالإقرار يصحّ، ولا يصير الموكّل بمجرّد التّوكيل مقرّاً خلافاً للشّافعيّة، ونقل ابن عابدين عن الطّواويسيّ‏:‏ معناه أن يوكّل بالخصومة ويقول‏:‏ خاصم، فإذا رأيت لحوق مئونةٍ أو خوف عارٍ عليّ فأقرّ بالمدّعى يصحّ إقراره على الموكّل كما في البزّازيّة‏.‏ وقال ابن عابدين‏:‏ ويظهر منه وجه عدم كونه إقراراً أي بمجرّد الوكيل‏.‏

أثر الشّبهة في الإقرار

54 - الشّبهة لغةً‏:‏ الالتباس، وشبّه عليه الأمر‏:‏ خلّط حتّى اشتبه لغيره وعرّفها الفقهاء بأنّها‏:‏ ما يشبه الثّابت وليس بثابتٍ فهي بهذا تؤثّر على الإثبات ومنه الإقرار‏.‏ فلو احتمل الإقرار اللّبس أو التّأويل أو شابه شيء من الغموض والخفاء اعتبر ذلك شبهةً، والشّيء المقرّ به إمّا أن يكون حقّاً للّه تعالى أو حقّاً للعباد‏.‏ وحقوق العباد تثبت مع الشّبهات، بخلاف حقوق اللّه تعالى، فإنّ منها ما يسقط بالشّبهة، كالزّنى والسّرقة وشرب الخمر، ومنها ما لا يسقط بالشّبهة، كالزّكاة والكفّارة‏.‏ على تفصيلٍ يبيّن في موضعه، وينظر في مصطلح ‏(‏حقّ، وشبهة‏)‏‏.‏

55 - وجمهور الفقهاء على عدم الاعتداد بإقرار الأخرس بالإشارة غير المفهمة، لما فيها من الشّبهة‏.‏ يقول ابن قدامة‏:‏ وأمّا الأخرس فإن لم تفهم إشارته فلا يتصوّر منه إقرار‏.‏ وإن فهمت إشارته، فقال القاضي‏:‏ عليه الحدّ، وهو قول الشّافعيّ وابن القاسم من المالكيّة وأبي ثورٍ وابن المنذر‏.‏ لأنّ من صحّ إقراره بغير الزّنى صحّ إقراره به كالنّاطق‏.‏ وقال أصحاب أبي حنيفة‏:‏ لا يحدّ، لأنّ الإشارة تحتمل ما فهم منها وغيره، فيكون ذلك شبهةً في درء الحدّ، وهو احتمال كلام الخرقيّ‏.‏

56 - وقد سبق الكلام عن إقرار الصّبيّ والمجنون والسّكران والمكره وأثر ذلك كلّه في الإقرار‏.‏ كما أنّ تكذيب المقرّ له للمقرّ فيما أقرّ به، أو ظهور كذب المقرّ - كمن يقرّ بالزّنى فظهر مجبوباً - مانع من إقامة الحدّ، لتيقّن كذب الإقرار‏.‏

ولو أقرّ بشيءٍ وكذّبه المقرّ له، وكان أهلاً للتّكذيب، فلا يصحّ، لأنّه منكر، والقول له، كإقراره بدينٍ بسبب كفالةٍ‏.‏ ويقول الشّيرازيّ‏:‏ لو أقرّ لرجلٍ بمالٍ في يده فكذّبه المقرّ له بطل الإقرار، لأنّه ردّه، وفي المال وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنّه يؤخذ منه ويحفظ لأنّه لا يدّعيه، والمقرّ له لا يدّعيه، فوجب على الإمام حفظه كالمال الضّائع‏.‏

والثّاني‏:‏ لا يؤخذ منه، لأنّه محكوم له بملكه، فإذا ردّه المقرّ له بقي في ملكه‏.‏

وفي المغني‏:‏ لو أقرّ أنّه زنى بامرأةٍ فكذّبته فعليه الحدّ دونها، وبه قال الشّافعيّ، لأنّ استيفاء ثبوته في حقّها لا يبطل إقراره، كما لو سكتت، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف‏:‏ لا حدّ عليه لأنّا صدّقناها في إنكارها فصار محكوماً بكذبه‏.‏

وينصّ المالكيّة على أنّه يلزم لإبطال الإقرار بتكذيب المقرّ له أن يستمرّ التّكذيب، بحيث إذا رجع المقرّ له إلى تصديقه صحّ الإقرار ولزم، ما لم يرجع المقرّ‏.‏

كلّ هذا ممّا يوجد شبهةً في الإقرار‏.‏ فوجود الشّبهة فيه أو وجود ما يعارضه أولى بالاعتداد به من الإقرار نفسه، لأنّ الأصل براءة الذّمّة، ولا يعدل عن هذا الأصل إلاّ بدليلٍ ثابتٍ يقينيٍّ لا يوجد ما يعارضه أو يوهن منه‏.‏

الشّبهة بتقادم الإقرار في حقوق اللّه

57 - جاء في الهداية والفتح‏:‏ التّقادم لا يبطل الإقرار عند محمّدٍ، كما في حدّ الزّنى الّذي لا يبطل التّقادم الإقرار به اتّفاقاً‏.‏ وفي نوادر ابن سماعة عن محمّدٍ قال‏:‏ أنا أقيم عليه الحدّ وإن جاء بعد أربعين عاماً‏.‏ وعندهما لا يقام الحدّ على الشّارب إلاّ إذا أقرّ به عند قيام الرّائحة‏.‏ فالتّقادم يؤثّر على الإقرار بالشّرب عندهما فيسقط الحدّ‏.‏

وفي الهداية والفتح والبحر‏:‏ التّقادم يؤثّر على الشّهادة في حقوق اللّه عدا حدّ القذف، لما فيه من حقّ العبد، لما فيه من رفع العار عنه، بخلاف الإقرار، فإنّ التّقادم لا يؤثّر عليه، ويحدّ بإقراره مع التّقادم إلاّ في حدّ الشّرب فقط عند أبي حنيفة وأبي يوسف، فإنّ التّقادم فيه يبطل الإقرار خلافاً لمحمّدٍ‏.‏

58 - أمّا حقوق العباد فإنّ التّقادم لا يؤثّر فيها، لا في الإقرار بها ولا في الشّهادة عليها‏.‏ ويقول ابن قدامة‏:‏ إن أقرّ بزنًى قديمٍ وجب الحدّ، وبهذا قال الحنابلة والمالكيّة والأوزاعيّ والنّوويّ وإسحاق وأبو ثورٍ‏.‏ لعموم الآية ولأنّه حقّ يثبت على الفور فيثبت بالبيّنة بعد تطاول الزّمان كسائر الحقوق‏.‏ ونقل عن أبي حنيفة أنّه قال‏:‏ لا أقبل بيّنةً على زنًى قديمٍ وأحدّه بالإقرار به، وأنّه قول ابن حامدٍ، وذكره ابن أبي موسى مذهباً لأحمد‏.‏

الرّجوع عن الإقرار

59 - الرّجوع قد يكون صريحاً كأن يقول‏:‏ رجعت عن إقراري، أو كذبت فيه، أو دلالةً كأن يهرب عند إقامة الحدّ، إذ الهرب دليل الرّجوع، فإن كان بحقٍّ من حقوق اللّه الّتي تسقط بالشّبهة كالزّنى، فإنّ جمهور الفقهاء‏:‏ الحنفيّة والمشهور عند المالكيّة ومذهب كلٍّ من الشّافعيّة والحنابلة على أنّ الرّجوع يعتبر، ويسقط الحدّ عنه، لأنّه يحتمل أن يكون صادقاً في الرّجوع وهو الإنكار، ويحتمل أن يكون كاذباً فيه، فإن كان صادقاً في الإنكار يكون كاذباً في الإقرار، وإن كان كاذباً في الإنكار يكون صادقاً في الإقرار، فيورث شبهةً في ظهور الحدّ، والحدود لا تستوفى مع الشّبهات، وقد روي أنّ«ماعزاً لمّا أقرّ بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالزّنى لقّنه الرّجوع»‏.‏ فلو لم يكن محتملاً للسّقوط بالرّجوع ما كان للتّلقين معنًى، سواء أرجع قبل القضاء أم بعده، قبل الإمضاء أم بعده‏.‏ ويستوي أن يكون الرّجوع بالقول أو بالفعل بأن يهرب عند إقامة الحدّ عليه، وإنكار الإقرار رجوع، فلو أقرّ عند القاضي بالزّنى أربع مرّاتٍ، فأمر القاضي برجمه فقال‏:‏ ما أقررت بشيءٍ يدرأ عنه الحدّ‏.‏ ولأنّ من شرط إقامه الحدّ بالإقرار البقاء عليه إلى تمام الحدّ، فإن رجع عن إقراره أو هرب كفّ عنه، وبهذا قال عطاء ويحيى بن يعمر والزّهريّ وحمّاد ومالك والثّوريّ والشّافعيّ وإسحاق وأبو حنيفة وأبو يوسف‏.‏ وقال الحسن وسعيد بن جبيرٍ وابن أبي ليلى‏:‏ يقام عليه الحدّ ولا يترك، لأنّ ماعزاً هرب فقتلوه ولم يتركوه، ولو قبل رجوعه للزمتهم الدّية، ولأنّه حقّ وجب بإقراره، فلم يقبل رجوعه كسائر الحقوق‏.‏ وحكي عن الأوزاعيّ أنّه إن رجع حدّ للفرية على نفسه، وإن رجع عن السّرقة والشّرب ضرب دون الحدّ‏.‏ ونقل الشّيرازيّ عن أبي ثورٍ أنّه لا يقبل رجوعه، لأنّه حقّ ثبت بالإقرار فلم يسقط بالرّجوع كالقصاص وحدّ القذف‏.‏

واستدلّ ابن قدامة للجمهور القائلين باعتبار الرّجوع بأنّ «ماعزاً هرب، فذكر ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ هلاّ تركتموه يتوب فيتوب اللّه عليه ‏؟‏»

ففي هذا أوضح الدّلائل على أنّه يقبل رجوعه‏.‏ ولأنّ الإقرار إحدى بيّنتي الحدّ، فيسقط بالرّجوع عنه كالشّهود إذا رجعوا قبل إقامة الحدّ‏.‏ وإنّما لم يجب ضمان ماعزٍ على الّذين قتلوه بعد هربه، لأنّه ليس بصريحٍ في الرّجوع‏.‏ أمّا إن رجع صراحةً بأن قال‏:‏ كذبت في إقراري أو رجعت عنه أو لم أفعل ما أقررت به وجب تركه، فإن قتله قاتل بعد ذلك وجب ضمانه، لأنّه قد زال إقراره بالرّجوع عنه فصار كمن لم يقرّ، ولا قصاص على القاتل للاختلاف في صحّة الرّجوع فكان شبهةً‏.‏

وقيّد الإمام مالك في الرّواية غير المشهورة عنه قبول رجوع المقرّ في حقوق اللّه الّتي تسقط بالشّبهة بأن يكون الرّجوع لوجود شبهةٍ، أمّا لو رجع عن إقراره بغير شبهةٍ فلا يعتدّ برجوعه، فقد نصّ أشهب على أنّه لا يعذر إلاّ إذا رجع بشبهةٍ، وروي ذلك عن مالكٍ، وبه قال ابن الماجشون‏.‏

والشّافعيّة في الأصحّ عندهم لا يعتبرون إلاّ الرّجوع الصّريح‏.‏ ولا يرون مثل الهروب عند تنفيذ الحدّ رجوعاً، فلو قال المقرّ‏:‏ اتركوني أو لا تحدّوني، أو هرب قبل حدّه أو في أثنائه لا يكون رجوعاً في الأصحّ، لأنّه لم يصرّح به، وإن كان يجب تخليته حالاً، فإن صرّح فذاك وإلاّ أقيم عليه الحدّ، وإن لم يخلّ لم يضمن، «لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يوجب عليهم شيئاً في خبر ماعزٍ»‏.‏

60 - أمّا من أقرّ بحقٍّ من حقوق العباد أو بحقٍّ للّه تعالى لا يسقط بالشّبهة - كالقصاص وحدّ القذف وكالزّكاة والكفّارات - ثمّ رجع في إقراره فإنّه لا يقبل رجوعه عنها من غير خلافٍ، لأنّه حقّ ثبت لغيره فلم يملك إسقاطه بغير رضاه، لأنّ حقّ العبد بعد ما ثبت لا يحتمل السّقوط بالرّجوع، ولأنّ حقوق العباد مبنيّة على المشاحّة، وما دام قد ثبت له فلا يمكن إسقاطه بغير رضاه‏.‏

وقد وضّح القرافيّ الإقرار الّذي يقبل الرّجوع عنه والّذي لا يقبل الرّجوع عنه، فقال‏:‏ الأصل في الإقرار اللّزوم من البرّ والفاجر، لأنّه على خلاف الطّبع‏.‏ وضابط ما لا يجوز الرّجوع عنه، هو ما ليس له فيه عذر عاديّ، وضابط ما يجوز الرّجوع عنه، أن يكون له في الرّجوع عنه عذر عاديّ، فإذا أقرّ الوارث للورثة أنّ ما تركه أبوه ميراث بينهم على ما عهد في الشّريعة، ثمّ جاء شهود أخبروه أنّ أباه أشهدهم أنّه تصدّق عليه في صغره بهذه الدّار وحازها له، فإنّه إذا رجع عن إقرارٍ معتذراً بإخبار البيّنة له، وأنّه لم يكن عالماً بذلك، فإنّه تسمع دعواه وعذره، ويقيم بيّنته، ولا يكون إقراره السّابق مكذّباً للبيّنة وقادحاً فيها، فيقبل الرّجوع في الإقرار‏.‏

وإذا قال‏:‏ له عليّ مائة درهمٍ إن حلف - أو مع يمينه - فحلف المقرّ له، فرجع المقرّ وقال‏:‏ ما ظننت أنّه يحلف، لا يلزم المقرّ شيء، لأنّ العادة جرت بأنّ هذا الاشتراط يقضي عدم اعتقاد لزوم ما أقرّ به، والعادة جرت على أنّ هذا ليس بإقرارٍ‏.‏ ويقول ابن جزيٍّ‏:‏ من أقرّ بحقٍّ لمخلوقٍ لم ينفعه الرّجوع، وإن أقرّ بحقٍّ للّه تعالى كالزّنى وشرب الخمر فإن رجع إلى شبهةٍ قبل منه، وإن رجع إلى غير شبهةٍ ففيه قولان‏:‏ قول يقبل منه وفاقاً لأبي حنيفة والشّافعيّ‏.‏ وقيل‏:‏ لا يقبل منه وفاقاً للحسن البصريّ‏.‏

هل الإقرار يصلح سبباً للملك‏؟‏

61 - نصّ الحنفيّة‏:‏ على أنّه لو أقرّ لغيره بمالٍ، والمقرّ له يعلم أنّه كاذب في إقراره، لا يحلّ له أخذه عن كرهٍ منه فيما بينه وبين اللّه تعالى، إلاّ أن يسلّمه بطيبٍ من نفسه، فيكون تمليكاً مبتدأً على سبيل الهبة، ونقل ابن عابدين عن ابن الفضل‏:‏ أنّ الإقرار لا يصلح سبباً للتّمليك، وفي الهداية وشروحها‏:‏ والمقرّ له إذا صدّقه ثمّ ردّه لا يصحّ ردّه‏.‏ وحكمه لزوم ما أقرّ به على المقرّ، وعمله إظهار المخبر به لغيره لا التّمليك به ابتداءً، ويدلّ عليه مسائل‏:‏

أ - أنّ الرّجل إذا أقرّ بعينٍ لا يملكها يصحّ إقراره، حتّى لو ملكها المقرّ يوماً من الدّهر يؤمر بتسليمها إلى المقرّ له، ولو كان الإقرار تمليكاً مبتدأً لما صحّ ذلك، لأنّه لا يصحّ تمليك ما ليس بمملوكٍ له، وصرّح الشّافعيّة بموافقة الحنفيّة في صحّة الإقرار، لكن لم نجد في كلامهم أنّ المقرّ إذا ملك العين يؤمر بتسليمها للمقرّ له، وكذلك لم نجد من المالكيّة والحنابلة ذكراً لهذه المسألة‏.‏

ب - الإقرار بالخمر للمسلم يصحّ حتّى يؤمر بالتّسليم إليه، ولو كان تمليكاً مبتدأً لم يصحّ، لكن ذهب المالكيّة والحنابلة إلى عدم صحّة الإقرار بالخمر، وفرّق الشّافعيّة بين الخمر إذا كان محترماً أو غير محترمٍ، وصحّحوا الإقرار بالخمر المحترم‏.‏

ج - المريض مرض الموت الّذي لا دين عليه إذا أقرّ بجميع ماله لأجنبيٍّ صحّ إقراره، ولا يتوقّف على إجازة الورثة، ولو كان تمليكاً مبتدأً لم ينفذ إلاّ بقدر الثّلث عند عدم إجازتهم، وبقولهم مال جمهور العلماء، وعند الحنابلة قولان آخران، قيل‏:‏ لا يصحّ مطلقاً، وقيل‏:‏ لا يصحّ إلاّ في الثّلث‏.‏

د - العبد المأذون إذا أقرّ لرجلٍ بعينٍ في يده صحّ إقراره، ولو كان الإقرار سبباً للملك ابتداءً كان تبرّعاً من العبد، وهو لا يجوز في الكثير‏.‏ ومثله عند الجمهور إلاّ أنّهم لم يفرّقوا بين القليل والكثير‏.‏

الإقرار بالنّسب

62 - إذا أقرّ أحد الورثة بوارثٍ ثالثٍ مشاركٍ لهما في الميراث لم يثبت النّسب بالإجماع، لأنّ النّسب لا يتبعّض فلا يمكن إثباته في حقّ المقرّ دون المنكر، ولا يمكن إثباته في حقّهما، لأنّ أحدهما منكر ولم توجد شهادة يثبت بها النّسب‏.‏ ولكنّه يشارك المقرّ في الميراث في قول أكثر أهل العلم، لأنّه أقرّ بسبب مالٍ لم يحكم ببطلانه فلزمه المال، كما لو أقرّ ببيعٍ أو بدينٍ فأنكر الآخر‏.‏ ويجب له فضل ما في يد المقرّ من ميراثه، وبهذا قال ابن أبي ليلى، ومالك، والثّوريّ، والحسن بن صالحٍ، وشريك، ويحيى بن آدم وإسحاق وأبو عبيدٍ وأبو ثورٍ‏.‏ وتقسم حصّة المقرّ أثلاثاً فلا يستحقّ المقرّ له ممّا في يد المقرّ إلاّ الثّلث ‏(‏وهو سدس جميع المال‏)‏ كما لو ثبت نسبه ببيّنةٍ، لأنّه إقرار بحقٍّ يتعلّق بحصّته وحصّة أخيه، فلا يلزمه أكثر ممّا يخصّه، كالإقرار بالوصيّة، وإقرار أحد الشّريكين على مال الشّركة، وقال أبو حنيفة‏:‏ إذا كان اثنان فأقرّ أحدهما بأخٍ لزمه دفع نصف ما في يده، وإن أقرّ بأختٍ لزمه ثلث ما في يده، لأنّه أخذ ما لا يستحقّ من التّركة، فصار كالغاصب، فيكون الباقي بينهما، ولأنّ الميراث يتعلّق ببعض التّركة كما يتعلّق بجميعها، فإذا ملك بعضها أو غصب تعلّق الحقّ بباقيها، والّذي في يد المنكر كالمغصوب فيقتسمان الباقي بالسّويّة، كما لو غصبه أجنبيّ‏.‏

وقال الشّافعيّ‏:‏ لا يشارك المقرّ في الميراث ‏(‏قضاءً‏)‏، وحكي ذلك عن ابن سيرين، وقال إبراهيم‏:‏ ليس بشيءٍ حتّى يقرّوا جميعاً، لأنّه لم يثبت نسبه فلا يرث، كما لو أقرّ بنسب معروف النّسب‏.‏ ولأصحاب الشّافعيّ فيما إذا كان المقرّ صادقاً فيما بينه وبين اللّه تعالى‏.‏ هل يلزمه أن يدفع إلى المقرّ له نصيبه ‏؟‏ على وجهين‏:‏ أحدهما يلزمه ‏(‏ديانةً‏)‏ وهو الأصحّ، وهل يلزمه أن يدفع إلى المقرّ له نصف ما في يده أو ثلثه ‏؟‏ على وجهين‏.‏

وإن أقرّ جميع الورثة بنسب من يشاركهم في الميراث ثبت نسبه، سواء أكان الورثة واحداً أم جماعةً، ذكوراً أم إناثاً، وبهذا قال الشّافعيّ وأبو يوسف وحكاه عن أبي حنيفة، لأنّ الوارث يقوم مقام الميّت في ميراثه وديونه … وكذلك في النّسب، وقد روت السّيّدة عائشة رضي الله عنها أنّ «سعد بن أبي وقّاصٍ رضي الله عنه اختصم هو وعبد بن زمعة في ابن أمة زمعة، فقال سعد‏:‏ أوصاني أخي عتبة إذا قدمت مكّة أن أنظر إلى ابن أمة زمعة وأقبضه فإنّه ابنه، فقال عبد بن زمعة‏:‏ هو أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراشه فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ هو لك يا عبد بن زمعة» ولأنّه حقّ يثبت بالإقرار فلم يعتبر فيه العدد، ولأنّه قول لا تعتبر فيه العدالة فلم يعتبر العدد فيه، والمشهور عن أبي حنيفة أنّه لا يثبت إلاّ بإقرار رجلين أو رجلٍ وامرأتين، وقال مالك‏:‏ لا يثبت إلاّ بإقرار اثنين، لأنّه يحمل النّسب على غيره فاعتبر فيه العدد كالشّهادة‏.‏

شروط الإقرار بالنّسب

63 - يشترط لصحّة الإقرار بالنّسب على المقرّ نفسه‏:‏

1 - أن يكون المقرّ به مجهول النّسب‏.‏

2 - ألاّ ينازعه فيه منازع، لأنّه إن نازعه فيه غيره تعارضا، فلم يكن إلحاقه بأحدهما أولى من الآخر‏.‏

3- وأن يمكن صدقه بأن يحتمل أن يولد مثله لمثله‏.‏

4 - أن يكون ممّن لا قول له كالصّغير والمجنون، أو يصدّق المقرّ إن كان من أهل التّصديق‏.‏ فإن كبر الصّغير وعقل المجنون فأنكر لم يسمع إنكاره، لأنّ نسبه قد ثبت فلا يسقط، ولأنّ الأب لو عاد فجحد النّسب لم يقبل منه‏.‏

64 - وإن كان الإقرار عليه وعلى غيره كإقرارٍ بأخٍ اعتبر فيه الشّروط الأربعة السّابقة، وشرط خامس، وهو كون المقرّ جميع الورثة‏.‏ فإن كان الوارث بنتاً أو أختاً أو أمّاً أو ذا فرضٍ يرث جميع المال بالفرض والرّدّ، ثبت النّسب بقوله عند الحنفيّة والحنابلة القائلين بالرّدّ، وعند من لا يرى الرّدّ كالشّافعيّ لا يثبت بقوله النّسب، لأنّه لا يرى الرّدّ ويجعل الباقي لبيت المال، ولهم فيما إذا وافقه الإمام في الإقرار وجهان، يقول الشّيرازيّ‏:‏ وإن مات وخلّف بنتاً فأقرّت بنسب أخٍ لم يثبت النّسب، لأنّها لا ترث جميع المال‏.‏ فإن أقرّ معها الإمام ففيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يثبت، لأنّ الإمام نافذ الإقرار في مال بيت المال‏.‏

والثّاني‏:‏ أنّه لا يثبت لأنّه لا يملك المال بالإرث، وإنّما يملكه المسلمون وهم لا يتبيّنون، فلا يثبت النّسب‏.‏ وينصّ المالكيّة على أنّ من أقرّ بأخٍ وعمٍّ لم يرثه إن وجد وارث، وإلاّ يكن له وارث أصلاً أو وارث غير حائزٍ فخلاف، والرّاجح‏:‏ إرث المقرّ به من المقرّ جميع المال سواء أكان الإقرار في حال الصّحّة أم في حالة المرض، وفي قولٍ‏:‏ يحلف المقرّ به أنّ الإقرار حقّ‏.‏

65 - وإن كان أحد الوارثين غير مكلّفٍ كالصّبيّ والمجنون فأقرّ المكلّف بأخٍ ثالثٍ لم يثبت النّسب بإقراره، لأنّه لا يحوز الميراث كلّه، فإن بلغ الصّبيّ أو أفاق المجنون فأقرّا به أيضاً ثبت نسبه لاتّفاق جميع الورثة عليه، وإن ماتا قبل أن يصيرا مكلّفين ثبت نسب المقرّ به لأنّه وجد الإقرار من جميع الورثة، فإنّ المقرّ صار جميع الورثة، هذا فيما إذا كان المقرّ يحوز جميع الميراث بعد من مات، فإن كان للميّت وارث سواه أو من يشاركه في الميراث لم يثبت النّسب، ويقوم وارث الميّت مقامه، فإذا وافق المقرّ في إقراره ثبت النّسب، وإن خالفه لم يثبت‏.‏ وإذا أقرّ الوارث بمن يحجبه كأخٍ أقرّ بابنٍ للميّت ثبت نسب المقرّ به وورث وسقط المقرّ‏.‏‏.‏‏.‏ وهذا اختيار ابن حامدٍ والقاضي وقول أبي العبّاس بن سريجٍ‏.‏ لأنّه ابن ثابت النّسب لم يوجد في حقّه أحد موانع الإرث فيرثه، كما لو ثبت نسبه ببيّنةٍ، ولأنّ ثبوت النّسب سبب للميراث فلا يجوز قطع حكمه عنه، ولا يورث محجوب به مع وجوده وسلامته من الموانع‏.‏ وقال أكثر الشّافعيّة‏:‏ يثبت نسب المقرّ به ولا يرث، لأنّ توريثه يفضي إلى إسقاط توريث المقرّ، فيبطل إقراره، فأثبتنا النّسب دون الإقرار‏.‏ يقول الشّيرازيّ‏:‏ إن كان المقرّ به يحجب المقرّ، مثل أن يموت الرّجل ويخلّف أخاً فيقرّ الأخ بابنٍ للميّت يثبت له النّسب ولا يرث، لأنّا لو أثبتنا له الإرث أدّى ذلك إلى إسقاط إرثه، لأنّ توريثه يخرج المقرّ عن أن يكون وارثاً فيبطل إقراره، لأنّه إقرار من غير وارثٍ‏.‏

66 - وإن أقرّ رجلان عدلان ابنان أو أخوان أو عمّان بثالثٍ ثبت النّسب للمقرّ به، فإن كانا غير عدلين فللمقرّ به ما نقصه إقرارهما ولا يثبت النّسب‏.‏ إذ المراد بالإقرار هنا الشّهادة، لأنّ النّسب لا يثبت بالإقرار، لأنّه قد يكون بالظّنّ ولا يشترط فيه عدالة‏.‏ وإن أقرّ عدل بآخر يحلف المقرّ به مع الإقرار ويرث ولا يثبت النّسب بذلك، وإلاّ يكن المقرّ عدلاً فمذهب المالكيّة أنّ للمقرّ به ما نقصه الإقرار من حصّة المقرّ سواء كان عدلاً أو غير عدلٍ ولا يمين، والتّفرقة بين العدل وغيره قول ضعيف عند المالكيّة على تفصيلٍ مبيّنٍ عندهم‏.‏ ويقول ابن قدامة‏:‏ وإن أقرّ رجلان عدلان بنسبٍ مشاركٍ لهما في الميراث وثمّ وارث غيرهما لم يثبت النّسب إلاّ أن يشهدا به، وبهذا قال الشّافعيّ، لأنّه إقرار من بعض الورثة فلم يثبت فيها النّسب كالواحد، وفارق الشّهادة لأنّه تعتبر فيها العدالة والذّكوريّة، والإقرار بخلافه‏.‏

الرّجوع عن الإقرار بالنّسب

67 - ينصّ الحنفيّة على أنّه يصحّ رجوع المقرّ عمّا أقرّ فيما سوى الإقرار بالبنوّة والأبوّة والزّوجيّة وولاء العتاقة، فإنّ من أقرّ في مرضه بأخٍ وصدّقه المقرّ له ثمّ رجع عمّا أقرّ به يصحّ إن صدّقه المقرّ عليه، لأنّه وصيّة من وجهٍ‏.‏ وفي شرح السّراجيّة، أنّه بالتّصديق يثبت النّسب فلا ينفع الرّجوع‏.‏

ويقول الشّيرازيّ‏:‏ وإن أقرّ بالغ عاقل ثمّ رجع عن الإقرار وصدّقه المقرّ له في الرّجوع ففيه وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنّه يسقط النّسب، كما لو أقرّ بمالٍ ثمّ رجع في الإقرار وصدّقه المقرّ له في الرّجوع‏.‏

والثّاني‏:‏ وهو قول أبي حامدٍ الإسفرايينيّ أنّه لا يسقط، لأنّ النّسب إذا ثبت لا يسقط بالاتّفاق على نفيه كالنّسب الثّابت بالفراش‏.‏

ويقرب من هذا الاتّجاه الحنابلة، يقول ابن قدامة‏:‏ وإذا ثبت النّسب بالإقرار ثمّ أنكر المقرّ لم يقبل إنكاره، لأنّه نسب ثبت بحجّةٍ شرعيّةٍ فلم يزل بإنكاره، كما لو ثبت ببيّنةٍ أو بالفراش، وسواء أكان المقرّ به غير مكلّفٍ أم مكلّفاً فصدّق المقرّ‏.‏ ويحتمل أن يسقط نسب المكلّف باتّفاقهما على الرّجوع عنه، لأنّه ثبت باتّفاقهما فزال برجوعهما كالمال‏.‏

وقال ابن قدامة‏:‏ والأوّل أصحّ، لأنّه نسب ثبت بالإقرار فأشبه نسب الصّغير والمجنون، وفارق المال، لأنّ النّسب يحتاط لإثباته‏.‏

إقرار الزّوجة بالبنوّة

68 - عند الحنفيّة لا يقبل إقرار الزّوجة بالولد وإن صدّقها، لأنّ فيه تحميل النّسب على الغير، لأنّه ينسب إلى الأب، إلاّ أن يصدّقها الزّوج أو تقدّم البيّنة، ويصحّ إقرار المرأة بالولد مطلقاً إن لم تكن زوجةً ولا معتدّةً، أو كانت زوجةً وادّعت أنّه من غير الزّوج، ولا يثبت نسبه منه ويتوارثان إن لم يكن لها وارث معروف، لأنّ ولد الزّنى يرث بجهة الأمّ فقط‏.‏ وعن ابن رشدٍ عن المدوّنة‏:‏ وإن نظرت امرأة إلى رجلٍ فقالت‏:‏ ابني، ومثله يولد لها وصدّقها لم يثبت نسبه منها، إذ ليس هنا أب يلحق به، وإن جاءت امرأة بغلامٍ مفصولٍ فادّعت أنّه ولدها لم يلحق بها في ميراثٍ، ولا يحدّ من افترى عليها به‏.‏

وينصّ الحنابلة على أنّه إن أقرّت المرأة بولدٍ ولم تكن ذات زوجٍ ولا نسبٍ قبل إقرارها، وإن كانت ذات زوجٍ لا يقبل إقرارها في روايةٍ، لأنّ فيه حملاً لنسب الولد على زوجها ولم يقرّ به، أو إلحاقاً للعار به بولادة امرأته من غيره‏.‏ وفي روايةٍ أخرى‏:‏ يقبل، لأنّها شخص أقرّ بولدٍ يحتمل أن يكون منه، فقبل كالرّجل‏.‏

وقال أحمد في رواية ابن منصورٍ في امرأةٍ ادّعت ولداً‏:‏ فإن كان لها إخوة أو نسب معروف فلا بدّ من أن يثبت أنّه ابنها، فإن لم يكن لها دافع فمن يحول بينها وبينه ‏؟‏ وهذا لأنّها متى كانت ذات أهلٍ فالظّاهر أنّها لا تخفى عليهم ولادتها، فمتى ادّعت ولداً لا يعرفونه فالظّاهر كذبها‏.‏ ويحتمل أن تقبل دعواها مطلقاً، لأنّ النّسب يحتاط له، فأشبهت الرّجل‏.‏

الإقرار بالزّوجيّة تبعاً

69 - ومن أقرّ بنسب صغيرٍ لم يكن مقرّاً بزوجيّة أمّه، وبهذا قال الشّافعيّة، لأنّ الزّوجيّة ليست مقتضى لفظه ولا مضمونه، فلم يكن مقرّاً بها‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ إذا كانت مشهورةً بالحرّيّة كان مقرّاً بزوجيّتها، لأنّ أنساب المسلمين وأصولهم يجب حملها على الصّحّة‏.‏ والإقرار بالزّوجيّة صحيح بشرط الخلوّ من الموانع‏.‏

إقرار المرأة بالوالدين والزّوج

70 - نصّ الفقهاء على جواز إقرار المرأة بالوالدين والزّوج، إذ الأنوثة لا تمنع صحّة الإقرار على النّفس‏.‏ وقد ذكر الإمام العتّابيّ في فرائضه أنّ الإقرار بالأمّ لا يصحّ، وكذا في ضوء السّراج، لأنّ النّسب للآباء لا للأمّهات، وفيه حمل الزّوجيّة على الغير‏.‏ قال صاحب الدّرّ‏:‏ لكن الحقّ صحّته بجامع الأصالة فكانت كالأب والأصل‏:‏ أنّ من أقرّ بنسبٍ يلزمه في نفسه ولا يحمل على غيره فإقراره مقبول، كما يقبل إقراره على نفسه بسائر الحقوق‏.‏

التّصديق بالنّسب بعد الموت

71 - ويصحّ التّصديق في النّسب بعد موت المقرّ، لأنّ النّسب يبقى بعد الموت، وكذا تصديق الزّوجة لأنّ حكم النّكاح باقٍ، وكذا تصديق الزّوج بعد موتها لأنّ الإرث من أحكامه، وعند أبي حنيفة لا يصحّ لانقطاع النّكاح بالموت‏.‏

ونصّ الشّافعيّة على أنّ المقرّ به إذا كان ميّتاً فإن كان صغيراً أو مجنوناً ثبت نسبه، لأنّه يقبل إقراره به إذا كان حيّاً فقبل إذا كان ميّتاً‏.‏ وإن كان بالغاً عاقلاً ففيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا يثبت لأنّ نسب البالغ لا يثبت إلاّ بتصديقه، وذلك معدوم بعد الموت‏.‏

والثّاني‏:‏ أنّه يثبت وهو الصّحيح، لأنّه ليس له قول، فيثبت نسبه بالإقرار كالصّبيّ والمجنون‏.‏ وقالوا‏:‏ إنّ النّسب يثبت لمن أقرّ ببنوّة مجهول النّسب مستوفياً شروطه ثبت نسبه مستنداً لوقت العلوق‏.‏

كما نصّ الحنفيّة والمالكيّة على أنّ الإقرار بالجدّ وابن الابن لا يصحّ، لأنّ فيه تحميل النّسب على الغير، غير أنّ المالكيّة قالوا‏:‏ إن قال المقرّ‏:‏ أبو هذا ابني صدّق، لأنّ الرّجل إنّما يصدّق في إلحاق ولده بفراشه، لا بإلحاقه بفراشه غيره‏.‏

وفي كتب الشّافعيّة أنّه إذا كان بين المقرّ والمقرّ به واحد، وهو حيّ لم يثبت النّسب إلاّ بتصديقه، وإن كان بينهما اثنان أو أكثر لم يثبت النّسب إلاّ بتصديقٍ من بينهما، لأنّ النّسب يتّصل بالمقرّ من جهتهم فلا يثبت إلاّ بتصديقهم‏.‏